واخيراً توقف قلب الشاعر والمثقف الكبير علي الخليلي، بعد رحلة حياتية وابداعية، كانت مسكونة بالوطن بكل تفاصيله، بانبساطه وانحناءاته وتعرجاته، بمده وجزره ، فرحه المحبوس وارتعاشاته المتحررة من قيود الممنوعات.

رحل الكاتب الكبير والانسان البسيط الذي كان يتحدث بهدوء وتلقائية، بعيداً عن التصنع والاستعلاء والتمترس في برج "الأنا " ، رحل الرجل العميق والمشحون بالعنفوان اذا كتب الشعر، والممتلئ خبرة وثقافة اذا كتب المقالة، وطويل النفس الملم اذا ما قرر البحث في قضية تتعلق بالتراث، والصبور حينما كان يوجه الكتاب الشبان ويأخذ بأيدهم ابتداءً من سنوات السبعيينيات والثمانينيات " الفجر الادبي" ووصولاً الى كل المحطات التي أغناها شعراً ونثراً ونقدا.

عمل بصمت لم تغره المناصب والمواقع والتسميات، لانه كان منحازاً للنص الجيد، فهو الهدف والرهان.

كان مؤسساً لاتحاد الكتاب ورابطة الصحافيين "النقابة الآن" وتجمعات ثقافية وابداعية اخرى، ولم يسع يوما لكي يكون على رأس أي منها فالغاية تتحقق في تأسيس ونشر وتعميم المؤسسات وليس في تحقيق طموح شخصي باعتلاء هرمها.

كتب بصمت ، وواجه مرضه بصمت ورحل بصمت، لان الكبار الحقيقيين يقدمون اقصى ما لديهم بصمت ويرحلون بصمت، بلا ضجيج او اعلانات أومانشيتات مبهرة أحيانا ودرامية أحيانا اخرى..

مضى علي الخليلي بعد أن ترك لنا أربعين مؤلفاً في الشعر والرواية والبحث، تشكل بمجملها شهادة حية على مسيرة مبدع فلسطيني سابق الزمن قراءة وكتابة وثقافة، مضى بعد ان زرع في حديقة الإبداع عديد الاشجار التي رعاها وسقاها وقلّمها واعتنى بها حتى غدت باسقة وارفة مثمرة، ونقصد الأدباء الشبان الذين قدم لهم النصح والتوجيه الصائب ليصبحوا كتاباً واعلاميين يشار اليهم بالبنان.

نحن شعب قد عانى من اخطاء القادة واخطاء السياسيين والخلط بين التكتيكي والاستراتيجي، لكننا لم ننقرض ولن ننقرض لاننا محروسون بسياج ثقافي وابداعي، يصون هويتنا ويذود عنها في كل المراحل. أجيال من الكتاب والباحثين والمبدعين حرسوا حلمنا وحموه من الضياع والتيه، منهم من رحل قديما ومنهم من فارقنا مؤخراً ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا. قائمة طويلة من الحراس البررة غرسوا في اعماقنا الانتماء ونثروا فوق رؤوسنا ومن حولنا ورودهم الجورية الجميلة الفواحة لتضمد جراحاتنا وتغذي ارواحنا شفافية وذوقا وحساً مرهفاً وتسقي وجداننا عطراً معتقا في التجارب والأقلام ووعي الالتزام.

لم ينتظر اي منهم ان نبادله عطاءً بعطاء، لان الانسان الملتزم، لا يبحث عن ثمن فأي ثمن هذا يمكن ان يضاهي طهارة الالتزام واخلاق الطهارة، اي ثمن هذا يمكن ان ينصف الروح عندما تكتب أربعين او خمسين عاما بمداد روحها؟!

علي الخليل الحارس الأمين، المثابر الصامت، الأديب العضوي على رأي غرامشي، كتب بأعصابه ودمه وعرقه، كتب بقلم روحه، وعيناه لا تبرحان الحلم فهو الهدف والبوصلة والمحك وأداة الاختبار، وهو الناظم والناقد، فهل يموت الانسان الذي تعلق بالحلم وانتمى اليه؟، هل يموت الابن الوفي للحلم ما دام الحلم متألقاً لا يعرف الموت اليه سبيلاً؟!

انه اذن موت الخلود، تجدد الحياة في الموت، وفي ألق حلم ما انفك يفجر الحياة في المدارس والمصانع والمزارع.. وفي القبور ايضا!!

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com