من قرر لي أن أولد في هذه المدينة؟ ومن قرر لي حدودي من قبل أن أولد؟ من قرر لي ان أكون ابن لهذه الطائفة؟ ومن قسَّم لي طائفتي لأجزاء صغيرة ووضعني في أصغر جزء منها؟ من رسم لي حدوداً.. حدود رُسِمت بواسطة مسطرة!! هل من منطق؟ هل من المفروض ان أوافق؟ أن أستسلم؟ ..

من الصعب وصف حزني حين عدت إلى منزلي بعد ثلاثة اعوام من الغياب لأراه مدمراً لا يصلح حتى للترميم، أحمل حطامي أنا وعائلتي لنضع نفسنا جميعاً في غرفة يخجل الفقير في العيش بها في منطقة بها الاحتمال الأكبر أن لا أُقتل حين أخرج كي أحصل على كيس أرز يوزعه أحدهم علينا كي نبقى على قيد الحياة، ليس محبةً بنا، بل كي لا يزيد العدد المزيف من ضحايا المأساة على الشاشات! ..

وجه احتلته ملامح الغربة داخل الوطن، تجاعيد اعتادت على رؤية الهدم، آذان تشنجت من صوت الانفجارات، تحتاج الى ما يرطّبها من دموع اليأس التي رسمت خريطة على وجهي التي مللت من كثرة مسحها خلال السنوات الاخيرة. أحاول الاتصال في الشبكة الالكترونية وبعد محاولات استطعت الاتصال. عازف عود من الناصرة؟ يحمل اسم عائلتي "قندلفت" ابن عائلتي الذي رُسِمت بيننا حدوداً اصبح عمرها ثلاثة اجيال، فصلوا بيننا وحرمونا من سلام اليد، حتى ابتسامة نرسلها من وراء أسلاك شائكة! وأبعدونا وفرقونا ..

ابن عائلتي يعزف، ويطلق على عزفه اسم "متعة سوداء" ضغطت على زر الاصغاء، تمسمرت في مكاني، لا أستطيع فهم سبب شعوري وأنا أصغي الى هذه النغمات، تدخل الى عروقي، تشعرني بالاتصال في الدم بيني وبين هذا العازف الذي يحمل اسمي "قندلفت"، أصغي وصوت انفجارات من بعيد تسوّد لي متعتي في الاصغاء. انطقلت فوراً إلى صفحة البريد الالكتروني وكتبت عليها رسالة:
"في البداية أود أن اشكرك أخي جورج على هذه الاسطوانة الرائعة .. هذه الاسطوانة التي قدمت لي الكثير وخففت عني وطأة الحزن والقهر ، وزرعت في داخلي الأمل في زمن اصبح فيه الأمل مفقود ، وساعدتني في محنتي كشاب سوري مازال يعيش في سوريا في ظل هذه الأحداث العصيبة التي تمر بها .. لم أتوقع يوما أني سأعيش هكذا مأساة بخسارة منزلي ومدينتي ومستقبلي الذي كنت أبنيه بكل جد وتعب .. انها الحرب بكل ما حملته من دمار وأسى وحزن .. خسرت منزلي وانتقلت للعيش في غرفة صغيرة مع عائلتي في منطقة أمنة نوعا ما ، للابتعاد عن اصوات الحرب الصاخبة والاستكانة في أوقات صمت الحرب إلى موسيقاك صديقي جورج والحصول على القليل من الهدوء والسكينة ،وبعد حوالي ثلاثة سنوات عدت إلى منزلي لأراه مدمرا كئيبا ماحيا بدماره كل الذكريات الرائعة التي عشتها فيه .. أكتب إليك صديقي وأنا أصغي واستمتع الآن بمعزوفة "سهر" التي لطالما أزاحت عن عيوني دموع القهر والحزن والشعور باليأس .. أشكرك على موسيقاك أشكرك على الانسانية بموسيقاك التي لطالما كنا ومازلنا وسنظل بحاجتها في كل الأوقات ..
" فاسطوانتك الرائعة هي متعة لي حقا في هذا السواد الذي أعيشه " ...

"أنا، جورج قندلفت، أستيقظ في الصباح، أحتسي القهوة وأجلس أمام حاسوبي في غرفتي في برلين الألمانية ﻷنشر تسجيل مقابلة مع راديو ألماني حملت بها رسالة فلسطينيي الداخل كي أحاول أن أجعلها تصل الى أكبر عدد ممكن من الناس ، تحدثت بهذه المقابلة عن العلاج عن طريق الموسيقى في المجتمع العربي، عن النكبة، عن كيف يدخل العود في وسط كل هذه الفوضى السياسية الاجتماعية، وعن وجودي في برلين، المدينة التي حطموا جدارها وفتحوا حدودها قبل خمس وعشرين سنة فقط، أنشر المقابلة على الشبكة الالكترونية، وإذ برنة البريد الالكتروني تصدر من هاتفي النقال، انظر الى شاشته، "كنان قندلفت"؟!! ..

ابتدأت بقراءة كلمات الرسالة واذ بدموعي تنزل بعدم سيطرة، أمسحها لهدف أن أستطيع رؤية الشاشة ﻷكمال القراءة.. لماذا أبكي؟ هل حزناً على ابن عمي الذي لم يحدثني عنه أحد أم ﻷنه من المستحيل زيارته الآن ؟ وهو باسوأ حالة من الممكن أن يعيشها انسان. هل ابكي فرحاً لأن موسيقتي تحدت كل الحدود واخترقتها ووصلت حمص ، في اخطر واصعب فترة تمر حمص بها؟ هل أبكي ﻷن أحد أحلامي أن يُهد الجدار وتُفتح الحدود تحقق نوعا ما .. والواقع أنني مكبلاً لا أستطيع أن أجد طريقة للتفكير فقط في حل هذه المشكلة التي ربيت معها! .

خرجت من بيتي بهدف مراجعة موسيقية مع مغنية تركية، لا أستطيع وقف التفكير بنص رسالة "كنان"، دموعي تشوش لي رؤية طريقي، استخدم حطّتي لمسحها واخفائها، وأُفكر.. كم كان سهلاً أن أسافر إلى واشنطن، بريد اليكتروني قصير سألني ان كان لدي الوقت لأعزف في الولايات المتحدة، وافقت عليه، وفي الرسالة التي تلتها كانت تذكرة سفر الى فيلاديلفيا مرفق اليها تذكرة الى تورونتو ومن ثم الى سويسرا وبعدها برلين، وحين انطقلت من سويسرا إلى برلين لم يكن هنالك أي أحد في مطار برلين ليتفحصني أو يلقي نظرة على من أنا، خرجت من الطائرة أخذت حقيبتي دون أن يسألني أحدهم من أنت! أما الحدود التي تبعد عن بيتي في الناصرة مئة كيلومتر لا أستطيع تجاوزها، حتى دخولها من دولة ثانية غير ممكن لأن غلاف هويتي الخارجي لونه أزرق! وهذا حسب القانون الأمني ممنوع، فهل من أحد يفكر في القانون الانساني؟! ابتدأت المراجعة، وانا انظر الى الحائط، تسألني المغنية بالابتداء في العزف وأنا لا أستطيع الإجابة، وكأنني فقدت القدرة على العزف والكلام بأي لغة كانت، وضعت العود جانباً أمسكت هاتفي النقال وكتبت..

"عزيزي كنان..
امسح دموعك بمعزوفتي سهر وانتظرني..
أنا قادم لأبني معك بيتك من جديد..
جورج" ....

http://georgekandalaft1.bandcamp.com/releases

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com