كنت واحدا من ابناء الجيل الذي عايش ياسر عرفات، وعمل معه في مهمات عديدة، وساحات متعددة، وفي فترة من عمر التجربة الصعبة والمعقدة وطويلة الامد، كنت قريبا من الرجل، وتسنى لي ان اراقبه عن كثب في حياته العادية، وادائه القيادي، وخصائصه الشخصية والسلوكية، لذا حين اقدمت على تسجيل شهادتي في الرجل قدمته كما هو ، " ظاهرة مميزة ان لم اقل استثنائية" ولو لم يكن كذلك، لما تمكن من قيادة اطول واعقد ثورة وطنية في التاريخ، ولما سجل رقما قياسيا في المعارك التي خاضها ونجا منها جميعا، مع انه كان يؤدي قيادته لهذه المعارك بمنطق واسلوب الجندي المقاتل وليس الزعيم الآمر.

كان بوسعه ان يقود المعارك عن بعد، الا انه لم يفعل ، وعلينا ان ندرك المغزى الكامن وراء سلوك من هذا النوع، انه ببساطة ، ايمان الرجل بانه قدوة لمن معه، وحين يكون الى جانب المقاتل في المعركة او يتقدمه في مواقع الخطر، فلن يتردد المقاتلون في الاستجابة له، فهو ليس آمرا وانما شريك مصير، واذا ما رغبنا في التعمق اكثر لمزيد من التعرف على الرجل، شخصية وسلوكا فلابد من التوقف امام احد اهم خصائصه، وهي ذلك الاندماج المطلق بقضيته ، كان اندماجاً قل نظيره على مستوى قيادات الثورات والدول والاحزاب، واندماج كهذا فرض عليه ان يوصل الليل بالنهار في عمل دؤوب ومتعب وتحت الخطر، وان يلاحق تطورات قضيته ، وما يحيط بها بقدر عال من الاحاطة والمتابعة ، فلا مجال للنوم والراحة والاستغراق في شؤون الحياة العادية ، لأن المجال كل المجال يجب ان يدخر لأعقد واصعب واطول قضية عرفها التاريخ ، كان يدرك ان ساعات من النوم او الغفلة تعني ببساطة وصدق ان القضية الكبرى قد لا تظل كذلك، بل لابد وان تتراجع كثيرا، في هذا الزمن المكتظ بالمفاجآت والتحولات والقضايا المتوالدة باستمرار.

كان ياسر عرفات يدرك ان الاندماج المطلق بالقضية والاستغراق الكامل في العمل من اجلها، يجعل العالم اكثر وعيا لأهمية واخلاقية التضامن مع اصحابها ، ومع قائدها بالذات الذي صار رمزا نابضا بالحركة والحياة.

كان الوحيد من بين قادة الثورات والدول والاحزاب من يجمع النقائض في قبضة واحدة، وهنا يعمل الذكاء عمله وتتجلى موهبة ادامة الحضور في كل الظروف، فيظل القائد حيا ما دامت قضيته حية، وتظل القضية متحركة وذات حضور قوي وفعال مادام القائد حاضرا وقويا وفعالا.

ان رموز الشعوب لا تصطنع ولا تخترع، وانما تتكرس، لهذا حين صار ياسر عرفات رمزا لشعب ولقضية، واقترب هذا الرمز من تحقيق الهدف صار لازما ان ترسل ثماني فرق عسكرية لاخراجه من لبنان، وان يقتل في معقله على ارض الوطن، وبقدر ما كانت النهاية مأساوية من حيث الشكل ، كانت عميقة الدلالة من حيث المضمون والمغزى.

لقد غاب ياسر عرفات بفعل الموت اغتيالا، ولقد كان شمعون بيرس اكثر من اقترب من الحقيقة الكامنة وراء هذا الاغتيال، حين قال ما كان ينبغي التخلص من الرجل ، فهو وحده من كان قادرا على صنع السلام مع اسرائيل.

ولعل قدرة صنع السلام ، تولدها كفاءة الاداء النضالي في زمن القتال ، ولقد كان المغفور له ياسر عرفات الابرع في المزاوجة بين الامرين معا، دون مغالاة او شطط في أي منهما على حساب الامر الاخر، لقد برع في استخدام هذين الامرين، وكلاهما صعب وبالغ التعقيد، فكان ان توج في مهرجان عالمي " برلين" رمزا لحركات التحرر جميعا، ثم توج بعد عدة عقود في اتجاه اخر لا يقل اهمية ان لم يزيد، وهو حصوله على جائزة نوبل للسلام.

وهنا سأعود الى الخصائص الشخصية والسلوكية للرجل واسجل: انه كان يجيد صناعة الاصدقاء، والتقليل من الاعداء، ولعله الوحيد من بين قادة الشعوب والدول والاحزاب وحركات التحرر ، من كان يصطف له حرس الشرف في السعودية حين يكون قادما او مغادرا الى موسكو، حين يسأل مع من تقف؟ كان يجيب ان السؤال بحاجة الى تعديل ، فالاساس من يقف معنا، فنحن اصحاب قضية عادلة ، ويتعين على كل الشعوب المؤمنة بالعدل والسلام والحرية ان تقف معنا ، لم يكن من السهل تسويق مقولة كهذه في زمن الاستقطابات الحادة عربيا واقليميا ودوليا، الا انه فعلها بكفاءة، وحين كان ينشب خلاف كان يجاهد لإنهائه بسرعة، ولو بالاعتذار والتراجع ان تطلب الامر، وفي الشأن الداخلي حيث تثور الان عاصفة حول كلام تشهيري صدر بحق الرجل وهو في رحاب الباري عز وجل، فيجدر بنا وقد صدمنا التجرؤ الفظ والجاهل عليه وعلى سيرته، ان نتحدث عن وعيه لحق أي عربي او فلسطيني بالذات في مخالفته الرأي وتوجيه الانتقاد لموقف او سلوك، وهذه احدى خصائص الكبار والقادة المجربين والمؤثرين، الا ان الفرق هائل وعميق بين انتقاد رأي برأي مخالف، والاعتراض على موقف بموقف مختلف وبين التهجم والتشهير وتشويه الصورة والسيرة ، ان امرا كهذا يجب ان يظل مرفوضا على الدوام ، فالتشهير هو فعل الجهلة والعاجزين عن الحوار الراقي والمنتج، اما الانتقاد والاختلاف فهو من سنن الحياة، وكان عرفات يقبله سواء جاء من قريب او بعيد.

اخيراً...

ان ياسر عرفات الذي صار رمزا ساطعا للوطنية الفلسطينية، ولثورات الشعوب ضد الظلم والاستبداد والاحتلال، سيظل ابد الدهر موضع حديث وجدل لا ينتهي، واذا ما جرى الحديث بموضوعية فالرجل يكسب فيه ، واذا ما جرى بتشهير وافتراء، فالخاسر من يفعل ذلك، واقترح اسدال الستار على العاصفة الاخيرة ، فمن اطلقها لا يستحق هذا القدر من الاهتمام والرد.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com