في وطنٍ يضيق بأبنائه ويتّسع للجلاد، وفي زمن تتناقص فيه القامات وتتزايد فيه الأقنعة، يخرج علينا رجل لا يشبه إلا نفسه، رجل يحترف المواجهة كما يحترف الصدق، ويحمل فلسطين في قلبه كما يحملها في صوته ويده وموقفه. هو الدكتور أحمد الطيبي، السياسي والطبيب، ابن الطيبة، وابن فلسطين، الذي لم يُؤسرَل، ولم يُروّض، بل آمن أن الكرامة لا تتجزأ، وأن فلسطين لا تختصر في شعار، بل تُترجم في السلوك، في التصويت، في التصريح، وفي الاصطفاف الأخلاقي مع الحقّ مهما كان الثمن.

من الطب إلى السياسة… انتقال من علاج الجسد إلى مداواة الجرح الوطني

لم يكن أحمد الطيبي رجل سلطة، بل كان رجل موقف. دخل السياسة من بوابة الطب، من لمس الجراحات النازفة، لا من شهية الزعامة.
حين اختار العمل السياسي، لم يتخلَّ عن ضميره الإنساني، بل حمَله معه، ليظلّ في كل خطاب، في كل جلسة كنيست، في كل مواجهة مع وزراء اليمين، صوتًا لا يتهدّل ولا يلين.

لم يُخفِ فلسطينيته لحظة. لم يُساير المؤسسة. لم يحترف اللغة الرمادية. بل قالها مرارًا وتكرارًا: “أنا فلسطيني أولًا، عربي دائمًا، وعضويتي في الكنيست لا تعني ولاءً، بل اشتباكًا”.

الكنيست ليس ملاذًا… بل ساحة اشتباك

منذ دخوله البرلمان، رفع الطيبي سقف الخطاب. لم يكن معارضًا باهتًا، ولا نائبًا وظيفيًا، بل كان “المُشاغب النبيل”، او "'النائب المشتبك"كما سمّاه البعض، ذاك الذي يعرف متى يصفع بالصوت، ومتى يصمت بحكمة، ومتى يُحرج المؤسسة التي حاولت احتواءه مرارًا، وفشلت.

أوقف جلسات، قاطع رؤساء حكومة، شَهَر الحقيقة بوجه الكذب المؤسسي، تحدى العنصريين، وسُجّلت له مواقف لا تُعدّ ولا تُحصى:
• دافع بشراسة عن القدس وقالها أمامهم: “القدس لنا، شاء من شاء وأبى من أبى”.
• وقف في وجه مشاريع تهويد النقب، واللد، والرملة، ويافا، والشيخ جراح.
• حين حاولوا تمرير قانون القومية، مزّقه أمام الكاميرات قائلاً: “هذا قانون أبرتهايد، وسنُسقطه بإرادة الشعب”.

صوت المهجّرين، الفقراء، والطلاب

أحمد الطيبي لم يكن نائب نخبة. بل كان ابن الميدان، يدخل البيوت، يزور العائلات الثكلى، يقف مع الطلبة، يترافع عن المسحوقين، ويستغل منصبه في الكنيست لأقصى درجة من أجل الناس الذين لا يعرفهم، لكنه يشعر بهم كما يشعر الطبيب بألمه حين يعجز عن تخفيف وجع مريضه.

قدّم آلاف الطلبات لطلاب الجامعات، تدخل في عشرات الحالات الإنسانية، من غزة إلى الضفة إلى الداخل. فتح أبوابه، وترك هاتفه مفتوحًا على مدار الساعة، لأنه يعتبر أن النائب الحقيقي يجب أن يكون في خدمة الناس لا فوقهم.

فارس اللغة، لا يُجارى في خطابه

ما يميّز الدكتور الطيبي ليس فقط وضوح مواقفه، بل بلاغته التي تحوّلت إلى حالة خاصّة داخل الكنيست.صمم على ادخال اللغة العربية في خطاباته رغم صراخ العنصريين.
هو شاعرٌ في السياسة، وخطيب في زمن التلعثم، وعبقري في توظيف اللغة كسلاح مقاومة.

خطبه تُنقل مباشرة لأنها توجع، لا تُنسي الناس قضاياهم بل تذكّرهم بها.
قالها أمام الكنيست، ببساطة وبلاغة: “نحن هنا قبل شارون، وقبل نتنياهو، وقبل بن غفير، وسنبقى هنا بعدهم جميعًا… لأننا أصحاب الأرض، لا ضيوفها”.و" احنا صحاب البلد".

بين غزة والضفة… بين النقب وعكا

لم يفصل الطيبي بين فلسطين وفلسطين. لم يتعامل مع الداخل كقضية منعزلة، بل ربط نضال الجماهير الفلسطينية في الداخل بنضال شعبها في الضفة وغزة والقدس.فقال: "المسجد الاقصى مكان صلاة للمسلمين فقط. نقطة. "

دافع عن غزة تحت القصف كما دافع عن حق الفلسطينيين في العودة، واجه المؤسسة الإسرائيلية حين هدمت أم الحيران، وحين هجّرت الناس في اللد والرملة ويافا، وكان صوته مدوّيًا:
“النكبة لم تنتهِ، وأنتم تُعيدون تمثيلها يوميًا، ولكننا لن نغيب”.

لا يهادن، ولا يسعى لرضا الإعلام العبري

أحمد الطيبي، على خلاف كثيرين، لا يسعى للتلميع لانه لامع. لا يهمّه أن يكون محبوبًا في الإعلام العبري. لا يصيغ مواقفه بما يتناسب مع “الرأي العام الإسرائيلي”، بل يصيغها على مقاس المظلوم.

يرتدي كوفيته في الكنيست لا لالتقاط صورة، بل ليقول: “أنا أنتمي لأمة تنزف، وسأبقى شاهدًا على الدم مهما حاولتم طمسه”.

ختامًا…

في زمنٍ تُشترى فيه المواقف، وتُباع فيه القيم، يبقى أحمد الطيبي علامةً فارقة، رجلًا لا يُهادن، لا يُساوم، لا يُغيّر جلده، ولا يهرب من الميدان.

هو من القلة القليلة التي ما زالت تقول “لا” بوجه قوي، في زمن أصبحت فيه الـ”نعم” سلعةً رخيصة.
هو النائب الذي لو خُيّر بين الكرسي والكرامة، لاختار الكرامة، ولو خُيّر بين التصفيق والخسارة، لاختار الخسارة إن كانت تُنقذ المبدأ.

أحمد الطيبي ليس فقط نائبًا في الكنيست، بل حالة وعي وطنية، رجل رفض أن يصير موظفًا لدى الاحتلال، فصار سيفًا في خاصرته

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com