كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com - منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)
في ظل تقلبات الأسواق المالية وتشابك المؤثرات الاقتصادية والسياسية، يواصل الذهب إظهار سلوك أقرب إلى الحذر منه إلى الحسم، متأرجحًا حول مستوى 3300 دولار للأونصة دون أن يحقق اتجاهًا واضحًا صعودًا أو هبوطًا. وهذا الثبات السطحي يخفي خلفه صراعًا معقدًا بين قوى داعمة وأخرى ضاغطة، مما يجعل من المشهد الحالي ساحة مفتوحة لتوقعات متباينة، ويستدعي قراءة تحليلية أعمق من مجرد تتبع الأسعار اللحظية.
فالبيئة العامة لا توفّر للذهب ظروف مستقرة بالمعنى التقليدي. فالدولار الأمريكي، وعلى الرغم من التراجع الحاد في طلبيات السلع المعمرة، ما زال يجد الدعم من مؤشرات الاقتصاد الكلي الأخرى، وعلى رأسها انتعاش ثقة المستهلك، الذي قفز بأقوى وتيرة منذ أربع سنوات. هذه القفزة، وإن جاءت مفاجئة، تعكس حالة من التفاؤل قد تكون مؤقتة لكنها كافية لتعزيز قوة الدولار، وهو ما يشكّل بطبيعة الحال ضغطًا على الذهب، بوصفه أصلًا لا يدر عائدًا. في مثل هذه البيئات، يميل المستثمرون إلى تفضيل الأصول ذات العائد الأعلى، خاصة إذا ارتبط هذا العائد بعملة ما زالت تتمتع بمكانة الملاذ النقدي الأول عالميًا.
ولكن الوجه الآخر لهذا المشهد يكشف هشاشة ما يبدو في ظاهره تفاؤلًا. فتأجيل ترامب للرسوم الجمركية المقترحة على الاتحاد الأوروبي ربما يكون قد هدّأ الأسواق جزئيًا، لكن جذور التوتر التجاري والسياسي ما زالت قائمة، سواء في العلاقة مع الصين أو في التصعيد الروسي في أوكرانيا. ومن وجهة نظري، فإن هذه العوامل الجيوسياسية لا يمكن تجاهل أثرها طويل المدى، لأنها تُبقي الطلب على الذهب قائمًا من منظور تحوّطي بحت، وإن تراجع حاليًا تحت وطأة تدفقات قصيرة المدى نحو الدولار.
كما أن خلفيات السياسة المالية الأمريكية تفتح بابًا آخر لدعم الذهب مستقبلاً. مشروع ترامب المالي الضخم، الذي يهدد بتوسيع العجز بوتيرة متسارعة، يثير مخاوف حقيقية بشأن الاستدامة المالية الأمريكية، وهي مخاوف لطالما كانت عنصر دعم تقليدي للمعدن النفيس. وفي حال أُقِر المشروع، فإن رد فعل الأسواق قد يكون أكثر وضوحًا على المدى المتوسط، مع احتمالية عودة الذهب للصعود بقوة، خاصة إذا اقترن ذلك بتأكيدات من الفيدرالي حول تخفيضات إضافية في أسعار الفائدة.
كما أن توقعات خفض الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي خلال عام 2025 تبقى المحرّك الأكثر حساسية للأسواق. ومن المؤكد أن أي تلميحات تصدر عن محضر اجتماع اللجنة الفيدرالية للسوق المفتوحة ستُراقب عن بعناية، لأن الفائدة الأمريكية تبقى العامل الأول الذي يُغيّر اتجاه الدولار وبالتالي الذهب. وبرأيي، فإن احتمالات خفض الفائدة مرتين على الأقل خلال 2025 تبقى مرتفعة، لا سيما مع إشارات على تباطؤ ضغوط التضخم. في هذا السياق، يصبح الذهب مرشحًا للصعود تدريجيًا، لا بفعل الطلب الفوري، وإنما بناءً على تسعير الأسواق لاحتمال بيئة نقدية أكثر تساهلاً.
ولكن يجب ألا نغفل عن البُعد السلوكي للمستثمرين. فحالة الحذر الواضحة، رغم بعض مؤشرات الإيجابية، تؤكد أن الأسواق لا تزال تنتظر إشارات أوضح قبل اتخاذ مراكز كبرى، سواء في الذهب أو العملات. والتاريخ يؤكد أن لحظات الترقب هذه غالبًا ما تنتهي بحركة عنيفة في الأسعار، إما نحو الصعود أو الهبوط، بحسب طبيعة الحدث المنتظر. وفي هذه الحالة، سيكون محضر الفيدرالي وبيانات مؤشرPCE هما الحدثان المفصليان. وفي حال جاءت البيانات أقل من المتوقع، أو حمل المحضر لهجة تميل إلى التيسير، فقد نرى انفراجًا صعوديًا سريعًا في أسعار الذهب.
على الجانب الآخر، لا يجب تجاهل أن الذهب ما زال عاجزًا عن استغلال كل هذا الخليط من المخاوف والمحفزات لتحقيق صعود واضح. وهذا قد يعكس نوعًا من التوازن المؤقت بين القوى المتقابلة، أو ربما إشارة إلى أن المستثمرين يعيدون تقييم مفهوم الذهب كملاذ آمن في ضوء التعقيدات الجيوسياسية الجديدة، وطبيعة الأسواق الحديثة القائمة على التداول وردود الفعل السريعة. ووجهة نظري هنا أن الذهب لم يفقد مكانته بعد، لكنه يمر بمرحلة "صمت تكتيكي"، بانتظار نقطة التحول الحقيقية التي ستعيد تشكيل اتجاهه العام.
وفي المجمل، يمكنني القول إن استقرار الذهب عند هذه المستويات لا يعكس ضعفًا بقدر ما يعكس تعقيدًا في المعطيات المحيطة. والمستثمر الذكي في هذه المرحلة ليس من يتوقع حركة لحظية، بل من يبني قراراته على قراءة شاملة للمشهد الكلي، مع الاستعداد لاختراق محتمل في أي من الاتجاهين. ومن وجهة نظري أرى أن الاتجاه العام للذهب في النصف الثاني من 2025 سيكون صعوديًا، ولكن بوتيرة هادئة ومتقطعة، تعتمد على التفاعل الحذر مع تحولات السياسة النقدية الأمريكية، وتداعيات الأزمات السياسية والمالية العالمية.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق