بقلم: رانية مرجية
ليس من السهل أن تكتب عن آفة اجتماعية مزمنة دون أن تُدين مجتمعك، وليس من السهل أن تقرع الأجراس وتوقظ الضمائر من دون أن تجرح، أو من دون أن تَتهم.
لكن الأديب زهير دعيم، في نصّه القصير العميق “الصحن المُغطّى يرفض الرحيل”، يفعل هذا تمامًا:
يضرب بسخرية لاذعة، ويَسرد ببراءة الطفل الذي يحمل صحنًا مغطّى، ويُشرّح واقعًا شرقيًا موبوءًا بالفضول، حيث الخصوصية تُعدُّ ترفًا، والاحترام يصبح عبئًا ثقيلًا على النفوس الطفيلية.
⸻
حين يكون الغطاء صرخة صامتة
“لو أرادت جدتي أن يعرف أحد ما في الصحن، لما غطّته”…
بهذه الجملة الطفولية، التي تقطر حكمة وتجريحًا، يبدأ النصّ وينتهي، لا من حيث الكلمات، بل من حيث الرسالة.
الصحن المغطّى يصبح استعارة لبيوتنا، لأسرارنا، لكرامتنا المخفية خلف ستائر صامتة.
ويتحول الطفل، ببساطته، إلى معلّم أخلاقي، بينما يتحول الجار إلى متلصّص محترف، يرتدي وجه المودّة، لكنه لا يريد إلا أن يعرف، ويتدخّل، ويتلذّذ بفتح الأغطية التي لا تخصّه.
⸻
الشرقي الذي لا ينام إلا بعد أن تنطفئ أنوار الآخرين
ما أقساه هذا الوصف: “لا يُطفئ مصباح بيته حتى ينطفئ آخر نور في الحارة”…
في هذه الجملة، يُعرّي الكاتب نفسيّتنا الجمعية، نحن الذين نعيش حياة غيرنا أكثر مما نعيش حياتنا.
نعرف عدد زوّار الجيران، وسبب وجود الشرطة، وكم مرة ركنت سيارة الإسعاف، وكم ابنة في البيت مخطوبة.
وهذا ليس فضولًا عابرًا، بل منهج حياة، تُغذّيه ثقافة مجتمعية مريضة، تُلبس التلصّص عباءة “الاهتمام”، وتُجمل الشماتة باسم “المعرفة”.
⸻
دعوة للمراجعة: هل ماتت الخصوصية في حاراتنا؟
ما يفعله النص، هو أكثر من فضح سلوك شائع.
إنه نداءُ استغاثة…
صرخة ضد عادات لا تقلّ خطورة عن التمييز والعنف والكراهية.
فالفضول المزمن شكل من أشكال العدوان، وإن بدا بريئًا.
هو انتهاكٌ صامت للآخر، وقتلٌ يوميّ لحقّه في أن يُخفي ما يشاء.
ولعلّ أقسى ما في النص، هو أن هذه “البذاءة”، كما يسميها حفيده، ورثناها كما نرث اللغة والدين، وندافع عنها أحيانًا باسم “حبّ الجيران”، و”العِشرة”، و”المعرفة بحقّ الآخر”، وهي مسمّيات لا تُخفي عفن الفضول بل تُشرعنه.
⸻
نقد الذات كما يجب أن يكون
ما يُحسب للنصّ، أنه لا يُدين الآخر فقط، بل يُدين “نحن”، “مجتمعنا”، “بيئتنا”.
زهير دعيم لا يكتب عن عادات بعيدة، بل عن نفسه ونفسنا.
يتوجّه إلى القارئ بمرآة لا ترحم، ويطرح سؤالًا عاريًا في ختام النص:
“هل هناك من يسمع ويتّقي؟”
لا يبحث عن إجابة مباشرة، لأنه يعلم أنّ الإجابة معلّقة على ضمير القارئ.
⸻
بين السخرية والتعاطف… نص يمشي على حدّ السكين
ما يميز أسلوب زهير دعيم في هذا النص هو المزج البارع بين السخرية المرّة والحنوّ الدافئ، كأنّه يقول لنا:
“أنا أرى قبحكم، لكنني لا أكرهكم”.
هو لا يجلدنا من موقع النخبة، بل ينتمي لنا، ويحبنا رغم كل فضائحنا، ويريد لنا شفاءً لا يمرّ بالإدانة، بل بالوعي.
⸻
خاتمة باسم الأمل
“الصحن المُغطّى” ليس فقط مجازًا عن الخصوصية، بل هو استعارة عن الحياء، عن الإنسانيّة، عن الحدود التي تجعلنا كائنات محترمة.
وما يدعو إليه الكاتب ليس سوى دعوة قدسية إلى أن نُعيد تعلم الصمت، والاحترام، والإصغاء دون اقتحام.
فإن لم نفعل، سنخسر ليس فقط جيراننا، بل إنسانيتنا أيضًا.
⸻
رانية مرجية
كاتبة وشاعرة فلسطينية
الرملة أيار 2025
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق