تكشف المشاهد اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة عن وجه آخر لانتهاك حقوق الإنسان، تتشابك الظروف الصحية مع منظومة القمع العسكري والاقتصادي، لتشكل صورة قاتمة لعالم يعاني فيه المرضى من قهر الاحتلال قبل قهر المرض. وفي هذا السياق، نفذت مؤسسة "أطباء لحقوق الإنسان" يومين طبيين في قرية تلفيت جنوب نابلس وبين النازحين من مخيم جنين، لتكون هذه الخطوة، بل شهادة حية على واقع يستحيل التغاضي عنه.
انطلقت العيادة المتنقلة التابعة لمؤسسة "أطباء لحقوق الإنسان" يوم السبت إلى قرية تلفيت، حيث استضافت المدرسة الثانوية للبنات هذا النشاط الطبي، بالتعاون مع المجلس المحلي. وكان في استقبال الطاقم الطبي محافظ نابلس غسان دغلس، ورئيس المجلس محمود أبو عيشة ونائبه حامد حاج محمد، إلى جانب عدد من أعضاء المجلس، الذين عبروا عن تقديرهم العميق لهذه المبادرة وسط حالة اقتصادية وأمنية متفاقمة.
تلفيت، التي يسكنها 4,000 نسمة، تبعد نحو 21 كيلومترًا جنوب شرق نابلس، لكن الوصول إليها يشبه رحلة عبر متاهة من الحواجز العسكرية، المدخل الرئيسي عبر جالود مغلق، والطريق الآخر عبر قُصرة مقطوع، ولم يتبقَ سوى مسار متعرج عبر قرية قبلان، في مشهد يومي من العزلة والحرمان. داخل القرية لا تتوفر سوى عيادة صغيرة تتبع وزارة الصحة الفلسطينية، حيث يحضر طبيب واحد ليوم واحد فقط في الأسبوع، ولمدة ساعتين، وقد يتعذر وصوله بسبب الحواجز الإسرائيلية المتحركة. أما الأدوية، فباتت رفاهية لا يجرؤ المرضى على الحلم بها، في وقت تزداد معدلات الفقر بعد أن فقد معظم سكان القرية وظائفهم نتيجة لمنع دخولهم إلى إسرائيل للعمل. خلال هذا اليوم الطبي، قُدمت الاستشارات الطبية لـ402 مريض، بينهم 60 طفلًا، حيث اقتصر العلاج في كثير من الحالات على مسكنات وأدوية أساسية فقط ليس لأن المرضى لا يحتاجون إلى المزيد، بل لأن هذا هو كل ما توفر. لم يكن ذلك طبًا، بل محاولة للبقاء على قيد الحياة.
بعد يومين فقط، انتقلت العيادة المتنقلة إلى جنين، حيث أقيم اليوم الطبي في سكن الطلاب التابع للجامعة الأمريكية، الذي أصبح ملجأً مؤقتًا لمئات العائلات النازحة بعد الهجوم الإسرائيلي على مخيم جنين في 21 كانون الثاني/يناير من هذا العام، لم تكتفِ القوات الإسرائيلية باعتقال العشرات، بل دمرت الممرات بهدف توسيع الطرق العسكرية وأحرقت مباني وتركت آلاف السكان بلا مأوى.
وبحسب اللجنة الشعبية في المخيم، فإن أكثر من 3,500 أسرة، ما يعادل نحو 15,000 شخص، تم تهجيرهم قسرًا، واضطروا للتفرق بين القرى المجاورة، بينما لجأ البعض إلى المساجد والمدارس، وآخرون احتشدوا في سكن الجامعة، الذي فرغ بسبب عطلة الفصل الدراسي. في هذا اليوم الطبي، استقبلت العيادة المتنقلة 392 مريضًا، بينهم أطفال ونساء حوامل وكبار سن، يعيشون جميعًا بلا أي نظام صحي يمكن الاعتماد عليه. لم يكن ذلك علاجًا بل تأجيلًا للمأساة.
وقال مدير العيادة المتنقلة في مؤسسة "أطباء لحقوق الإنسان" صلاح الحاج يحيى: "لسنا هنا لنقدم حلولًا إسعافية، بل لنكشف الوجه الحقيقي للواقع المركب، نحن نعمل منذ 30 عامًا ولن نتوقف حتى تنال هذه المجتمعات حقوقها الأساسية في العلاج والحياة الكريمة. الصحة ليست صدقة إنها حق مقدس". استمرار الصمت الدولي تجاه هذا الواقع يُعد تواطؤًا صريحًا.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق