صادف الثامن عشر من ديسمبر الحالي 2024 مرور 51 عاماً على إصدار قرار منظمة الأمم المتحدة، باعتماد العربية لغة رسمية ضمن اللغات الست. اعترافاً بمكانة العربية كلغة عالمية، في أعقاب مطالبة الدول العربية في الشرق الأوسط في 18 ديسمبر عام 1973 بذلك. بناءً عليه، قرر المجلس التنفيذي لليونسكو في اكتوبر 2012 بتحديد 18 ديسمبر يوماً عالمياً للغة العربية.
بالاستناد إلى أقوال متخصص اللغات السامية والقديمة الدكتور عبد الرحمن السليمان، تعود نشأت اللغة العربية إلى 1000-1500 قبل الميلاد حسب أقدم نقوش دلّت على ذلك، حتى ظهور الإسلام. وقد أوضح بأن العربية هي لغة ممتدة من اليمن إلى الشام باختلاف اللهجات، فقد شهِدت تطورات منذ نشأتها، فالحديث عن تراث لغوي واحد. وقد اقتبست لغات أخرى الاف الكلمات من العربية، حتى فُسّرت تعابير توراتية بمرجعية للعربية وذلك بإجماع المستشرقين.
وقد رأى مصطفى محمود العقّاد تسمية الشعوب السامية بالعربية لأنها أصلُ اللغات، فيحبذ البعض مصطلح "العروبة" بانتماء العربية إلى الفصيلة السامية. فهي جسر العروبة ذا المكانة الحاضرة بكل الحضارات، أسمحُ لنفسي هنا إجلالاً لها الإبحار ببعض الكلمات، فأمام هيبتها تنحني كل اللّغات، لغتي التي تتربعُ على عرش المفردات، فلا تتجاوز الأذهان كلماتها المسطورة لقراءات وصياغات.
وكما قالت الألمانية فريتاغ "هي أغنى لغة، تفوقُ سائر اللغات". فتحتوي على أكثر من 12 مليون كلمة، وتحتل المرتبة الثالثة من حيث عدد متحدثيها، وينطق بها أكثر من 467 مليون نسمة (ما يقارب نصف مليار إنسان) عبر العالم فلا تقتصر العربية على الوطن العربي بحت بل كونها عالمية الأوطان. استوحي هنا المقولة الشهيرة للمُستشرقة البلغارية مايا تسينوفا، "بعد دراستي اللغة العربية، اكتشفتُ أنه قد أصبح لفمي عقل"! لا عجب أن تأتي المقولة على لسان مترجمة للأدب العربي، تعني لها العربية الشغف اللا متناهي، مثلها كمثل القراء في اثنتين وعشرون دولة في العالم بغض النظر عن جنسياتهم، جعلهم الخوض في اللغة يُدركوا أن العربية ساهمت في نشر الثقافة إلى لغات أخرى، فأحدثَت في مسمعِ الدهر صدىً، ويُلمسُ أثرها على نهضة البشرية جمعاء.
أقتبس في هذا السياق قول أمير الشعراء احمد شوقي " إنّ الّذي ملأ اللغاتَ محاسناً، جعلَ الجمالَ وسِرّهُ في الضادِ". فقد احتلَّ كُتّاب العربية عرش الأدب والشعر ومُنحوا أسبقية على غيرهم تاريخياً، فبفضلهم توارث الأجيال عبر العصور لغة تسمو ببلاغتها على سائرها، فحملت العربية إرث الأجداد والأمجاد منذ العصر الجاهلي، إلى العباسي، ثم الأندلسي، ويتلوهُ العصر الحديث. فبرهنت لغة الضاد عراقتها عبر الأزمان، التي لا تضاهيها أخرى في لسان التاريخ من إجازة التعبير والأسلوب والاستعارات والمفردات التي لم ينل منها الزمن وأبقت بصمتها وأُصول ثقافتها على مر العصور، فأميلُ إلى تسميتها "اللغة التي لا تشيخ".
ومن منظور آخر لا بُد وأن أذكر تميُّز اللغة العربية كونها "لغة البيان" فيكفي أنها لغة الكتاب المختارة، وقد أودعَ البارئ سِرهُ في الضاد للتلفُظ بكلامهِ لخُلودها, فكأنها بين اللغات سراجٌ. كما قال شاعر النيل حافظ ابراهيم عنها "وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً، وما ضقتُ عن أي آيةٍ وعظاتٌ". فلا وسيلة لفهم القرآن المُنزل والدين وآدابهُ وأحكامهُ دون إجادة العربية وإتقانها، فتتبيّن قدسيتها، كما قال الشاعر "لغة الأجداد هذي رفع اللهُ لواها".
إحياءً لهذا اليوم، تُوصي جمعية الثقافة العربية مدارسنا في الداخل بتمرير فعاليات تتناول موضوعات مختلفة، تحملُ في طياتها أبعاداً ثقافية وتربوية، تهدف لإبراز أهمية اللغة، فبحسب الدراسات فإن للغة تأثير على تطوير إدراك الطفل وبلورة وعيَه بشكل سَويّ. كما أؤمن بدوري ككاتبة المقال أن كيان اللغة العربية هو مظهر من مظاهر تاريخنا وعظمةُ تراثنا وثقافة أمتنا العربية، وبذلك تكمُن ضرورة ووجوب "ملكةُ اللغات وسيّدتها" في الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية لتوحيد العرب وحمايتهم من الشتات الثقافي أقلّها. وبمُعتقدي الفكري أرى أن صُمود هوية الضاد هو مرآة لهوية أمة، وانتماء لعروبة، خطَّت وثيقة وجودها العربية بحروفها السبع كآثار بنيانٍ قوي بفصاحتهِ، وحُجةٍ ببلاغتهِ، وتناسقٍ معماريٍ شامخٍ لا يزول، تعدّى إبداعُ لُغتهِ التقويم الميلادي.
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق