الحرب التي تخوضها إسرائيل منذ 7 أكتوبر تختلف عن الحروب الماضية. ولم يكن الهدف منها توسيع الحدود أو تحسين الأمن أو التوصل إلى اتفاق، بل كان الهدف منها في الأساس تحصين نظام الفصل العنصري بين نهر الأردن والبحر. وحتى لو حققت إسرائيل نجاحاتٍ عسكرية، فمن الجدير بنا أن نتذكر أن الفصل العنصري ليس جريمة فحسب، بل هو أيضًا نظامٌ عنيف، دائم النزاعات وغير مستقر، بالنسبة للفلسطينيين واليهود على حدٍّ سواء.

- - - - - - - - - -

بعد عام من هجوم حماس الوحشيّ في 7.10 والذي أحدث صدمةً عميقةً في المجتمع اليهودي، وحتى قبل أن يستقر الغبار على أنقاض كيبوتس "بيري"، وغزة وطولكرم وبيروت، كيف يمكن للمرء أن يفهم أفق الحرب الحالية؟ أنا أزعم أن إسرائيل، خلافاً للرأي العام، لديها استراتيجية: نحن في أوج "حرب الفصل العنصري الأولى" التي تخوضها إسرائيل. وعلى عكس الحروب الثمانية السابقة، التي حاولت خلق نظامٍ جغرافيّ وسياسيّ جديد، أو كانت مقتصرة على مساحة أو منطقة معينة، فإن الحرب الحالية تسعى إلى ترسيخ النظام القائم، بل وتعميقه، وإضعاف –بدون ايجاد حل- التهديدات التي يواجهها لفترة من الوقت.

وهذا النظام، الذي أسميته سابقًا "الفصل العنصري الزاحف"، ومؤخرًا "يتعمق"، له جذور طويلة في الصراع. لكن هذا النظام أخذ يتشكل بشكلٍ منهجيّ منذ فشل محادثات "كامب ديفيد" في عام 2000، تحت قيادة بنيامين نتنياهو بشكلٍ رئيسيّ. إنه يُنشئ تصنيفًا لعدة أنواع من الوضع المدني المنقسم والدونيّ للفلسطينيين وفقًا للانتماء العرقي والجغرافي، في محاولة لسحق الشعب الفلسطينيّ والقضاء عليه وعلى حقوقه.



Photo by Chaim Goldberg/FLASH90

ظلّ هذا الهدف مخفيًا لسنواتٍ عديدة خلف خطابات سياسية جوفاء، وألاعيب سياسية وقانونية وتصريحات فارغة مثل "الاحتلال المؤقت" أو "عملية السلام". ومع ذلك، فإن المبادئ الأساسية للحكومة الإسرائيلية الحالية، اعتبارًا من عام 2022 تحدد الهدف بوضوح: "للشعب اليهودي حقٌ حصريّ وغير قابل للنقاش على جميع أرض إسرائيل. وستعمل الحكومة على تعزيز وتطوير الاستيطان في جميع أنحاء أرض إسرائيل". إسرائيل...". كما أصدر الكنيست الإسرائيلي قرارًا في يوليو 2024 بشأن معارضة القرار الفلسطيني، ولم يعترض عليه أي حزب يهودي. وعليه، فإن الخريطة التي قدمها نتنياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2023، تكشف المستقبل الذي يتطلع إليه في الشرق الأوسط: دولة يهودية بين الأردن والبحر مع تحطيم الشعب الفلسطيني وحقوقه.

الفصل العنصري: تم تعريف نظام الفصل العنصري في العديد من المعاهدات الدولية المُلزمة، على أنه جريمة ضد الإنسانية. في اتفاقية روما (1998)، التي تشكل الأساس للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، تم تعريف الفصل العنصري على أنه "نظام مؤسسي للقمع المنهجي والسيطرة من قبل مجموعة عنصرية واحدة، على مجموعة أو مجموعات عنصرية أخرى بهدف الحفاظ على هذا النظام."

من المثير للسخرية (وقد يقول البعض مأساوي) أن حملة الفصل العنصري، تتلقى المساعدات من حماس وشركائها. إن النشاط الإرهابي المستمر منذ عقود، والخطاب الإسلامي المتعصب الذي يسعى للسيطرة على الدولة بكاملها، وإقامة دولة وفق الشريعة الإسلامية، يشكلان قوة دافعة للاحتلال الاستعماري والانفصال والقمع، وهي حجر الزاوية في الفصل العنصري. لذلك من الممكن أن نفهم وننتقد الهجوم الإرهابي الذي حصل في 10/7 (واحتجاز الرهائن) ليس فقط باعتباره انحرافًا أخلاقيًا، بل أيضًا باعتباره "تمردًا مرتدًا"، يعود بطريقة مدمرة للشعب الفلسطيني، ويدمر بشكلٍ خطير نضالهم العادل من أجل تقرير المصير وإنهاء الاحتلال. وكان الهجوم الذي شنه حزب الله في الشمال، والذي ربط الصراع الإسرائيلي الفلسطيني بالصراع الجيوسياسي الإقليمي والعالمي، سبباً في صب الوقود على النار الإجرامية لتمرد "بوميرانج"، الذي بدوره يحرق مرتكبيه أنفسهم.

يزعم الكثيرون أن الهجوم الإرهابي الذي شنته حماس يوم 7.10 - وهو الهجوم الأكبر والأكثر قسوة في تاريخ الصراع، والذي تسبب في معاناة وصدمة غير مسبوقة في المجتمع اليهودي الإسرائيلي - يشير إلى انهيار مفهوم "إدارة الصراع". ويتضمن هذا المفهوم، الذي قاده نتنياهو على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، تمويل واحتواء "أصول" حركة حماس التي يبدو أنها رادعة، واستمرار التهويد والضم التدريجي للضفة الغربية. ويزعم العديد من الخبراء أيضًا أن إسرائيل ليس لديها أهداف استراتيجية وسياسية في الحرب، والهدف الوحيد هو بقاء نتنياهو سياسيًا.



وتتحطم هذه الادعاءات أمام الواقع الواضح مع إتمام عام على الحرب الملعونة. إن مفهوم احتلال الشعب الفلسطيني وسحقه وتطويقه والسيطرة عليه، ما يزال يوجه أفعال الحكومة والجيش، وخاصةً في قيادة هدف استراتيجي واضح: تعميق التفوق اليهودي المطلق - كل المساحة الثنائية القومية بين الأردن والبحر، أي وطن لكلا الشعبين.

الأهداف مقابل الوسائل: من المهم التمييز هنا بين الوسائل والأهداف. لقد انهارت بعض وسائل تطبيق الفصل العنصري وتثبيته بعد اخفاقات 10/7، وخاصة الوهم بإمكانية القضاء على الشعب الفلسطيني وحقوقه، وفي الوقت نفسه احتواء منظمات الجهاد المتطرف مثل حماس وحزب الله، والتهرب عمداً من الاتفاقات السياسية. كما انهارت فكرة أن الاستيطان يوفر الأمن على الحدود - وهي أسطورة صهيونية قديمة - مع عمليات الإخلاء بمرور الوقت لأكثر من 100 ألف شخص، في أكثر من 60 مستوطنة داخل الخط الأخضر، لأول مرة في تاريخ البلاد.

ولكن حتى لو فشلت الوسائل، بقي الهدف واضحًا وبارزًا. ووفقًا لهذا الهدف، فإن العنف الذي تشنه إسرائيل منذ 12 شهرًا، لا يهدف إلى توسيع حدود البلاد، أو تحقيق إنجازاتٍ سياسية أو السعي إلى اتفاقات أو حتى وقف إطلاق النار، كما يتبين من رفض حكومة الليكود منذ سنوات، لأي مخطط لمصالحة أو تسوية محلية أو إقليمية، قبل الحرب وخاصة الآن.

الجبهة الفلسطينية: إن الحرب الوحشية، التي جلبت معاناة غير مسبوقة للفلسطينيين، وقادت إسرائيل إلى مقاعد المتهمين في لاهاي، بتهمة إبادة شعب (إبادة جماعية)، تُدار بشكلٍ أساسيّ لأجل تقليص - ربما فقط لعدد من السنوات - التهديدات التي يتعرض لها نظام الفصل العنصري، الذي أنشأته إسرائيل وأقامته في العقود الأخيرة. ومن بين التعبيرات لهذا التوجه هو الدمار الصادم والكامل تقريباً لقطاع غزة ـ أكبر المدن الفلسطينية، فضلاً عن سلسلة من عمليات التطهير العرقي في أجزاء أخرى من قطاع غزة أيضاً.


Photo : Abed Rahim Khatib/Flash90

خلف ستار الدخان الناتج عن العنف في الجنوب، تسارع أيضًا الاستيلاء الاستعماري على الضفة الغربية: السيطرة العسكرية الصارمة، والضم الإداري المتعمق، وإنشاء العشرات من البؤر الاستيطانية والمزارع الجديدة، واشتد عنف المستوطنين، وطرد المجتمعات الفلسطينية في جنوبي وشرقي الضفة الغربية، وفُرض حصار اقتصادي خانق، واصبح القمع في المدن الفلسطينية في الضفة الغربية، وخاصة في مخيمات اللاجئين، أكثر عنفاً وعدوانية. لقد تم محو التقسيم الضعيف الذي كان موجودًا في الماضي بين المناطق C وB وA تمامًا. ويعمل الجيش بحرية في جميع أنحاء المنطقة. إن الهجوم في لبنان، والذي يمكن تبريره إلى حد ما باعتباره دفاعًا ضد عدو خارجي وعدواني، أو كخلية في النظام الإمبراطوري الأمريكي، يستخدم أيضًا لتحويل الانتباه عن القمع المتزايد للفلسطينيين في المناطق.

وفي الوقت نفسه، تم تشديد القيود الصارمة على النشاط السياسي للعرب الفلسطينيين، مواطني إسرائيل. وشملت هذه الإجراءات المراقبة والتجسس، والفصل من العمل، والإيقاف عن العمل، والتلاعب الحكومي، وموجة غير مسبوقة من هدم المنازل، خاصة في النقب. وفي الوقت نفسه، انسحبت الشرطة من التعامل مع مشكلة الجرائم الخطيرة في البلدات العربية، فازدادت أعمال العنف وجرائم القتل هناك. وهكذا، وتحت رعاية الحرب، تعمق الحكومة اضطهاد العرب داخل الخط الأخضر ووضعهم كمواطنين من الدرجة الثانية.

الجبهة اليهودية: تدير "حرب الفصل العنصري" ايضًا - من خلال وسائل أكثر تطوراً - جبهة ضد قوى السلام والديمقراطية اليهودية. إننا نشهد استمرار محاولات الانقلاب القضائي، التي تهدف إلى إضعاف استقلال القضاء وتجاوز الرتب المهنية، وبالتالي تمكين استمرار انتهاك حقوق الإنسان، وتركيز السلطة الاستبدادية في أيدي أحزاب الفصل العنصري (ما يشار إليه أحيانًا بالخطأ باسم "كتلة اليمين"). ويدير حزب "عوتسما يهوديت" الذي يتزعمه "إيتمار بن غفير" جبهة الفصل العنصري ضد اليهود، من خلال توزيع عشرات الآلاف من الأسلحة، خاصة لمؤيدي التفوق اليهودي، وتعزيز الخطاب السام والتجريمي ضد "الخونة"، وعنف الشرطة الحادّ ضد المتظاهرين، والتحريض وإسكات المؤسسات الأكاديمية والفنية. خلقت كتلة الفصل العنصري جوًا عامًا قوميًا مثل "معًا سننتصر"، الذي يعمل على إسكات أي انتقاد.

أحد الأبعاد المثيرة للاشمئزاز والسخرية للحرب، البعد المقزز والساخر للحرب الفصل العنصري، هو الإهمال المستمر للمختطفين في غزة. وبعيداً عن تجاهل معاناة الأهالي، والظلم الذي تعرض له المختطفون، الذين تم التخلي عنهم مرتين والتدني الأخلاقي، فإن عودتهم تهدد الحكومة لأنها قد تكشف إخفاقات 7.10. إن بقاءهم في أنفاق حماس يتيح استمرار "الضغط العسكري"، الذي كما نعلم يُعرّض حياة المختطفين للخطر، ويعني أيضًا استمرار الدمار والقتل في غزة، في تجاهل صارخ للقانون الدولي.

أفق سياسي؟ إن الفصل العنصري ليس فقط جريمة ضد الإنسانية، وليس فقط انحطاط أخلاقي لعنصرية مؤسسية، كما انه على يد شعب عانى هو نفسه على مدى أجيال من العنصرية والإبادة. يُعد الفصل العنصريّ أيضًا نظامًا خطيرًا غير مستقر، ويتميز بتصاعد أعمال العنف والتمرد والإرهاب، وصراعات عرقية متعددة الأماكن، وأضرار مستمرة تلحق بالاقتصاد والبيئة، وخاصة في مناطق المجموعات التي تهيمن عليها.

إن تحديد طبيعة الحرب وأهدافها أمر بالغ الأهمية، لفهم وصياغة وتنظيم النضال المستمر ضدها. إن نظام الفصل العنصري، على الرغم من العنف الهائل الذي يمارسه والدعم الكبير له بين اليهود، ما يزال بعيدًا عن النصر. والقوى المعارضة له تتزايد، ليس فقط بين الفلسطينيين والدول العربية، بل أيضاً بين اليهود في العالم وفي دول العالم التي أصبحت فيها إسرائيل دولة معزولة. لن تتمكن إسرائيل العنصرية والمظلمة من مواصلة الحرب الأبدية التي يتطلبها مشروع الفصل العنصري، لأنها ستفقد موقعها وارتباطاتها وصمودها الاقتصادي والعلمي والاجتماعي، وفي نهاية المطاف، ستفقد تفوقها العسكري أيضًا. .

إن المعركة ضد حرب الفصل العنصري معقدة، وتتطلب تعبئة دولية كبيرة لفرض القانون الدولي، وأيضًا شراكة يهودية فلسطينية، تبدأ في تحطيم جدران الفصل القانوني والتمييز. إن النضال المطلوب هنا هو نضال مدني وغير عنيف بشكل واضح. إن النضالات المماثلة ضد أنظمة الفصل العنصري في العالم، كما هو الحال في أيرلندا الشمالية وجنوب الولايات المتحدة وكوسوفو وجنوب أفريقيا، لم تكن ناجحة إلا عندما تخلت عن طريق العنف والإرهاب.

يتطلب النضال ايضًا أفقاً سياسياً وعملياً وأخلاقياً. إن مثل هذا الأفق المحتمل لكونفدرالية قائمة على المساواة، حيث يتم إنشاء دولتين في البلاد وفقاً للقانون الدولي، مع حرية الحركة وعاصمة مشتركة، هو ما تعرضه حركة "أرضבלאד للجميع – دولتان ووطن واحد" בלאד לליג'מיע: דאולתין פי ווטן וואחד https://www.alandforall.org/
. ليس هذا هو المكان المناسب للخوض في التفاصيل، بخلاف القول بأن الوجود المتساوي للشعبين في البلاد، هو وحده الذي يمكن أن يبدأ في تحويل عجلة التاريخ، من الكارثة التي تتدحرج لحرب الفصل العنصري الأولى، نحو وطن مشترك، وحياة مشتركة ومتساوية وآمنة لكلا الشعبين. وكل هذا حتى تكون حرب الفصل العنصري الأولى هي الأخيرة أيضًا.

البروفيسور "أورين يفتحيل" هو باحث في الجغرافيا السياسية والقانونية في جامعة بن غوريون في بئر السبع، وناشط في مجال حقوق الإنسان .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com