لا أذكر أني رأيتُ تأثرًا وحزنًا بموت زعيم أو سياسي عربي، بين الناس، كالذي رأيته في الأيام الأخيرة بعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الحزن في صفحات التواصل الاجتماعي، التي أصبحت الواقع الافتراضي الجديد، بدا كبيرًا، من مختلف الدول العربية، ومن الفلسطينيين بالأساس، العديد من الأشخاص كرروا ذات العبارة "نشعر أننا تيتّمنا"، والكبار في السن منهم، قارنوا هذا الحدث بوفاة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، الذي بكته الشعوب العربية كما لم تبك أحدًا من قبل. كل فلسطيني وربما كل عربي في جيلي، سمع من أهله أن جده قد بكى عند وفاة عبد الناصر. وشاءت الصدف، وربما أكثر من مجرد صدف، أن يأتي الإعلان الرسمي عن وفاة السيد حسن نصر الله، في تاريخ 28.9 وهو ذات تاريخ وفاة الزعيم جمال عبد الناصر.


والأمر تجاوز وسائل التواصل الاجتماعي، فأقيمت مسيرات ومظاهرات رفعت فيها صورته وهتفوا باسمه في عدة مدن فلسطينية وعربية، وفي مدن لم يكن تأييد حزب الله فيها كبيرًا في السنوات الأخيرة، مثل العاصمة الأردنية عمان، وبعض مدن المغرب العربي، طبعًا في مدن وقرى الداخل الفلسطيني هذا غير ممكن ولا تسمح به إسرائيل،  ناهيك عن مدن المحور المؤيد لحزب الله أصلًا مثل العاصمة السورية دمشق والعاصمة اليمنية صنعاء وغيرها. هذا بالإضافة إلى مظاهر الحزن في لبنان، حيث انتشرت فيديوهات من مطار بيروت وأماكن أخرى لعدد كبير من الناس يبكون، نساء ورجال، يبدون من مختلف الطوائف والفئات، يبكون وبعضهم يصرخ حتى.

الأب

بالإمكان إيجاد فوارق كثيرة بين جمال عبد الناصر والسيد حسن نصر الله، ولكن أوجه الشبه بينهما أكبر بكثير، كلاهما حاربا إسرائيل، كلاهما لم يستسلما، كلاهما رفضا التفاوض مع اسرائيل، كلاهما كانا يتحدثان بشكل جيد ويتمتعان بكاريزما كبيرة، كلاهما حظيا بعداء من حكام دول الخليج، وبشكل خاص حكام السعودية، وكلاهما دعما اليمن في حربها مع السعودية أو حلفاء السعودية، ولكن الصفة التي كانت الأكثر تأثيرًا على الناس، والتي اجتمعت بين الشخصين، كانت الأمان والأمل، الأمان الذي بثّه كل واحد منهما للناس، والأمل الذي بناه فيهم، فكان الإحساس العام نحو عبد الناصر كالإحساس العام نحو نصر الله، بأنه كان أقرب إلى "الأب"، بشدته، وحكمته وقربه للناس.

وكما فرح قسم من العرب، بوفاة عبد الناصر، خصوصًا الملوك والرؤساء الذين كان على عداوة معه أو بأحسن الأحوال كانت العلاقة بينهم فاترة، فإن وبقدر ما تسبب اغتيال السيد حسن نصر الله بحزن بين الناس، في فلسطين وفي لبنان وسورية والعراق وكافة الأقطار العربية، فإن هذا الاغتيال تسبب أيضًا بحالة ارتياح وفرح في صفوف بعض "العرب"، وهذا ما لا يمكن انكاره، فشعبية نصر الله في دول الخليج، وبالذات في السعودية، ليست كبيرة، وكذلك في الشمال السوري، في المناطق التي ما زالت تحت حكم قوى "المعارضة" حيث رفع البعض هناك لافتات شكروا بها إسرائيل، بسبب عدائهم لنصر الله واتهامهم لحزب الله أنه شارك بقمعهم وقتلهم مع قوى الجيش السوري، وفي بعض الأوساط بدول عربية أخرى وبالإضافة إلى أتباع الإخوان المسلمين، فباستثناء حماس، فإن معظم فئات الأخوان المسلمين لم تكن معجبة بنصر الله وحزب الله وازداد عدائها له مع الأزمة السورية، وهم نفسهم أيضًا بالمناسبة من أبرز معاديي جمال عبد الناصر وخطّه القومي، وأيضًا بدعوى أنه حاربهم ولاحقهم أثناء فترة حكمه. ولكن يبقى المنعرج الأساسي بعلاقة السيد نصر الله مع كل العرب، هو الأزمة السورية، فحتى ما قبل الحرب الداخلية السورية عام 2011، كان نصر الله محل اجماع في كل الدول العربية، باستثناء بعض الأطراف القليلة في الخليج وربما بعض الأطراف القليلة في لبنان التي تميل لإسرائيل، ثم غيّر وقوف حزب الله مع نظام الأسد ودعمه عسكريًا بعد ذلك من مواقف الكثير من الناس، وجعله محل انتقاد وتحريض في بعض الأحيان، والتالي جعل وفاته محل شماتة وسخرية، هذا بالإضافة إلى المتأثرين بخطاب الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة، وذلك رغم أن دخوله مباشرة في الحرب ضد إسرائيل بعد السابع من أكتوبر رمم وبشكل كبير من مكانته ورفع نسبة تأييده بشكل ملحوظ.

الخوف من هزيمة أخرى
"يتعلق الحزن والصدمة المقصودَان هنا بما هو أكبر من الشخصين ومشروعيهما،  بل بفهوم الهزيمة، وتوقيت موتهما أثناء المواجهة" وصف باحث في التاريخ من الجليل ما حصل وقد فضل عدم نشر اسمه، وتابع: "بينما مات جمال عبد الناصر بعد هزيمة حرب الأيام الستة وما لحقها من حالة يأس وخذلان عربي، اغتيل السيج حسن نصر الله، بغارة إسرائيلية، في وسط الحرب، وفي أسبوع تعرض فيه حزب الله لضربات صعبة واغتيالات لكبار قادته، جعل شعور الهزيمة أو الخوف من الهزيمة يسود بشكل كبير بين صفوف العرب، رغم أن الحرب لم تضع أوزارها بعد".

"بجانب قيمته كإنسان وقائد أحبه الناس لمصداقيته، عندما خرج وقال انظروا إلى البارجة الإسرائيلية في قلب البحر كيف ستحترق بصواريخنا الآن في عام 2006، وقبلها نجاح المقاومة اللبنانية بإخراج الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، استطاع السيد حسن نصر الله أن يحظى بمكانة كبيرة في قلوب العرب، خصوصًا مع غياب الانتصارات العربية ضد إسرائيل وأمريكا منذ عقود" يضيف الباحث "وهذا كله، لا يمكن إلا يقارن بشخصية جمال عبد الناصر الذي ربما لم يحقق انتصارًا على إسرائيل، لكنه حافظ على موقفًا شجاعًا ولم يهادن، ونجح بتحقيق إنجازات وانتصارات أخرى أبرزها تأميم قناة السويس وترميم الجيش المصري بعد الهزيمة وحرب الاستنزاف التي أوجع اسرائيل فيها، ولا يمكن ألا نتذكر بكاء الرجال عند وفاته، في أم الفحم والناصرة وحيفا، في كافة المناطق وفي كافة الدول العربية، والتي ربما كانت اصعب على الناس من هزيمة 67، فصحيح أن انتكاسة الناس بدأت بعد هزيمة حرب الأيام الستة، ولكن بقاء جمال عبد الناصر في سدة الحكم وبدء ترميم الجيش المصري وحرب الاستنزاف، أبقى بعض الأمل بين العرب، ثم جاء موته لتتجلى أبعاده بشكل فوري على مصر التي تحولت من حالة المجتمع الذي يبني مشروعًا وعنده طموحات إلى حالة المجتمع المهزوم والمحطم. وبشكل بعيد المدى، وأكثر بؤسًا وكارثية، في تغييب الثقل المصري عربيًا ودوليًا، مع نهاية تأثير أكبر شخصية سياسية في المنطقة، عبد الناصر. بكل ما مثله حضورُه على المستويين الإقليمي والعربي من معانٍ وسياسات. وكان للأمر تأثيرًا حتى على بلدات عربية أخرى، لبنان مثلًا بما اننا نتحدث عنها، حيث ساهم انكسار مصر وغياب الزعيم بالسماح لإسرائيل بأن تتعاطى وتتدخل في بعض الدول العربية، وجدت مدخلًا لها ولعبت أدوارًا سياسية وعالمية وكان لها دور كبير في الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت عام 1975، بالإضافة إلى عوامل أخرى".

نزار قباني 
الشاعر السوري نزار قباني، كتب في رثاء جمال عبد الناصر قصيدة بدأنا بـ"قتلناك يا آخر الأنبياء"، هذه القصيدة التي يبجل فيها الشاعر بالزعيم المصري الراحل ويصفه بأنه كان "كثيرًا علينا" وأن العرب تآمروا عليه وحاربوه، تم تناقلها بشكل كبير في الأيام الأخيرة بعد اغتيال السيد حسن نصر الله، خصوصًا الذي تزامن مع ذكرى وفاة عبد الناصر، يتابع الباحث :"بالإضافة إلى شخصه وقيمته، فإن خوف الناس من تكرار هزيمة العرب بعد اغتيال السيد نصر الله والدخول بفترة ضياع كالتي دخلها العرب بعد وفاة عبد الناصر، ولكن هذه المرة بظروف أسوأ وأصعب بكثير، فبينما في زمن هزيمة ناصر كانت هناك قوى اجتماعية وبلدان ومنظمات قادرة على الدفع باتجاه استمرارية الصراع العربي الإسرائيلي، وأهمها المنظمات الفلسطينية وداعميها في العالم العربي كله، وخصوصًا لبنان. فإن الهزيمة الآن اذا حصلت لا سمح الله، تترك قضية مواجهة إسرائيل ومشروعها، بلا وكيل، فقط تقتصر على الأفراد، وهذا ما يبرر ما كتبه كثيرون من الناس بأن وفاة نصر الله جعلتهم يشعرون باليُتم".

"مثّل عبد الناصر الأمل في قلوب ملايين العرب، وليس صدفة أن تم تسميته بحبيب الملايين، ثم في وفاته، أو حتى قبل وفاته، بعد الحرب، شعر الناس بخذلان كبير خصوصًا وأن كيان كبير مثل الجيش المصري، بكل ما أحيط به من هيبة قبل 5 يونيو، انهار في بضع ساعات، وهذا ما عاد إلى أذهان الناس الآن، بعد معادلة الردع التي بناها حزب الله طوال السنوات الماضية وترسانة الصواريخ والتهديدات التي كانت إسرائيل تتعامل معها بجدية كاملة، بعد هذا كله، تم اغتيال القادة وضرب الحزب ضربة تلو الأخرى، لم تنته حتى باغتيال نصر الله الذي كان الناس يشعرون أن قتله لن يكون أمرًا سهلًا ولن يمر بسهولة".

في نفس التاريخ، صدفة أم رسالة؟
ما بين بث الاطمئنان والراحة، وروح القيادة، والشجاعة في الوقوف ضد إسرائيل وبالأساس ضد أمريكا وما تمثله من قوة عظمى تخضع لها معظم دول العالم وبالأساس معظم دول المنطقة، التي تميّز بها كل من جمال عبد الناصر والسيد حسن نصر الله، وما بين الخوف بتكرار شعور الهزيمة والانكسار الذي أصاب الأمة العربية بعد وفاة جمال عبد الناصر وخسارته لحرب الأيام الستة، من تكراره الآن بعد اغتيال السيد حسن نصر الله وتعرض حزب الله لضربات صعبة، رغم عدم انتهاء الحرب بعد ورغم التطورات الأخيرة التي تظهر أن حزب الله ما زال قويًا، فإن الإعلان عن وفاة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله يوم السبت الأخير 28.9.2024، ذكّر العرب، القوميين منهم بالأساس، وبشكل كبير ويكاد أن يتجاوز الصدفة، بوفاة الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر في 28.9.1970 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com