كيف وحّد مُؤتمر التّطبيع “المشبوه” جميع الطّوائف والمذاهب في العِراق على أرضيّة إدانته؟ ولماذا لا نُصَدِّق بيان حُكومة أربيل بالتنصّل من إثمه؟ ولماذا نعتبر هذه الخطيئة تأريخًا لعودة الدّور القِيادي العِراقي في المِنطقة؟
اختِراق العِراق، وتفتيته، وإغراقه في الفتنة الطائفيّة، وإشعال فتيل الحرب الأهليّة بين مُكوّناته المُجتمعيّة العرقيّة والمذهبيّة، كان وما زال هدفًا إسرائيليًّا، نَظَر له عُتاة المُفكّرين الصّهاينة وأبرزهم برنارد لويس، ولهذا لم تُفاجِئنا أنباء وبيانات مُؤتمر التّطبيع الذي انعقد يوم الجمعة الماضي في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العِراق، وشاركت فيه 300 شخصيّة عشائريّة ادّعت أنّها تُمثّل سِت مُحافظات ذات أغلبيّة سنيّة وشيعيّة (بغداد، المُوصل، صلاح الدين، ديالي، الأنبار) تحت عُنوان “مُؤتمر السّلام والاستِرداد” كان أبرز المُتحدّثين فيه تشيمي بيريز، نجل رئيس الوزراء الأسبق شمعون بيريس.
لم يَكُن بالصّدفة أيضًا، أن تأتي هذه المُحاولة البائسة التطبيعيّة امتِدادًا للعُدوانات الأمريكيّة ولأهدافٍ إسرائيليّة على العِراق مرّتين الأُولى عام 1991، والثانية عندما غزَته واحتلّته عام 2003، وقتلت مِليونيّ من أبنائه، ودمّرت بُناه التحتيّة، لأنّ تفتيت المِنطقة لا يُمكن أن يُكتَب لها النّجاح في ظِل وجود عِراق قويّ مُوَحَّد، ولهذا، ونظَرًا لتعافي العِراق، وخُروجه قويًّا من رُكام الغزو، وانضِمامه المُتدرّج لمحور المُقاومة، والبَدء في استِعادة دوره، ومكانته في المِنطقة، تتجدّد هذه المُؤامرات على شكل مُؤتمرات، هدفها بَذْر بُذور الفِتنة، وجرّ العِراق عبر بعض العُملاء، إلى مُستَنقع الاستِسلام والتّطبيع وعزله عن مُحيطه العربيّ والإسلاميّ.
الإدانات الرسميّة والحزبيّة والشعبيّة القويّة لهذا المُؤتمر وتبرّؤ العشائر العربيّة والأصيلة من هؤلاء العُمَلاء، وإصدار القضاء العِراقي مُذكّرات توقيف بحقّ جميع المُشاركين فيه بتُهمة الخِيانة وانتِهاك الدّستور، وأبرزهم وسام الحردان، منال الألوسي، وسحر الطائي، المُتحدّثة باسمه، تَعكِس عُمُق جُذور الهُويّة العِراقيّة الجامعة، وتمسّك الشعب العِراقي بثوابت الكرامة والعزّة والشّرف والدّفاع عن القضايا العربيّة والإسلاميّة، وتُؤكِّد مُجَدَّدًا مدى عُمُق هذه الثّوابت وصلابة جُذورها.
جانبت الصّواب حُكومة كردستان العِراق عندما زعمت عدم درايتها بهذا المُؤتمر المُعيب، ونفت أيّ عُلاقة به ومُنظّميه والمُشاركين فيه، وتنصّلها بالتّالي من هذه الخطيئة الكُبرى في نظَرنا والملايين مِثلنا، فمِثل هذه المزاعم لا تُقنِع رضيعًا عِراقيًّا واحِدًا، ولا يُمكِن أن تحول دُون إدانتها بإثم التّطبيع واحتِضان مُخطّطاته، وانحِيازها للمُعسكر الأمريكي الإسرائيلي، وإصرارها على عدم التعلّم من دُروس طعَنات هذا المُعسكر للأكراد ابتِداءً من مُعاهدة “سيفر” عام 1920 وحتّى الآن.
مُتابعتنا لبعض ما تيسّر من وقائع هذا المُؤتمر، ورُدود الفِعل العِراقيّة المُشرفة عليه، أصبتنا بحالةٍ من الصّدمة، خاصَّةً عندما تلَت السيّدة سحر كريم الطائي المُتحدّثة باسمه البيان الخِتامي الذي يُطالب بانضِمام العِراق العظيم إلى اتّفاقات “سلام أبراهام”، وإقامة عُلاقات طيّبة مع الاحتِلال العُنصري وشعبها، الصّدمة جاءت لسببين: الأوّل يتمثّل في إصرار البعض المُرتَبِط بالخارج والواقف في الخندق الأمريكي الإسرائيلي على تشويه صُورة العِراق وشعبه والتّعاطي معه كما لو أنّه بلد مسلوب الإرادة والسّيادة، في وَقتٍ تُهزَم فيه الإمبراطوريّة الأمريكيّة بشَكلٍ مُذِل في أفغانستان وإسرائيل في معركة “سيف القدس” الأخيرة بقِطاع غزّة، ولبنان (تحدّي المازوت)، والثّاني الأوضاع المُزرية وحالة الفوضى وعدم الاستِقرار التي تسود مُعظم الدّول العربيّة المُطبّعة، والسّقوط المُزَلزِل لحُكوماتها في السودان والمغرب، وقريبًا في منطقة الخليج، الأمر الذي يَعكِس حجم الغباء والتّضليل الذي يعيشه هؤلاء المُشاركين في المُؤتمر المشبوه، وسُهولة اقتِيادهم بحيث ينطبق عليهم المثل الذي يقول “يذهب إلى الحج والنّاس راجعة”.
نُثَمِّن عاليًا في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” مواقف الحُكومة العِراقيّة المدين والمُستنكِر لانعِقاد هذا المُؤتمر التّطبيعي المُهين والمُسيء للعِراق وشعبه وثمانية آلاف عام من إرثه الحضاري مثلما نُثَمِّن مواقف كُل الأحزاب العِراقيّة التي “جرّمت” كُل المُشاركين في هذا المُؤتمر، وطالبت بمُحاكمتهم بتُهمة الخِيانة، ومواقف شُيوخ القبائل العِراقيّة خاصَّةً في بغداد والمُوصل وديالي والأنبار وبابل وصلاح الدين التي تبرّأت من هؤلاء المُشاركين المُدّعين لتمثيلها في مُؤتمر التطبيع.
خِتامًا نتمنّى على المَرجعيّات العِراقيّة الدينيّة من مُختلف الطّوائف والمذاهب والأديان إصدار “فتوى مُشتَركة” بإدانة التّطبيع وأشكاله كافّة، لإغلاق الأبواب والنّوافذ في وجه جميع مُحاولات الاختِراق الأمريكيّة والإسرائيليّة، وتجديد الدّعوة بإنهاء وجود القوّات الأمريكيّة على أرض العِراق، وتوفير الحِماية لمِثل هذه الخناجر المَسمومة وأصحابها.
العِراق العظيم عائدٌ وبقُوّةٍ، لاستِعادة مكانته العربيّة والإسلاميّة، ومواقفه الوطنيّة المُشَرِّفة، بعد سنوات الاحتِلال الأمريكي السّوداء.
“رأي اليوم”
bokra.editor@gmail.com
أضف تعليق