تشكل الإنتخابات النيابية العملية السياسية الأصعب في رسم التحالفات، مع الإشارة إلى أنه لا يزال من المُبكر الحديث عن أي شكل نهائي للحكم في لبنان في المدى المنظور ما دامت ملامح الحل في سوريا لم تتبلور بعد. فلبنان يعيش دوماً على حد قاعدة التاريخ التي أحسن سيرفانتس صياغتها بقوله إن:" طواحين الآلهة بطيئة لكنها تسحق حين تعمل".

"إن طواحين الآلهة بطيئة لكنها تسحق حين تعمل".

الكاتب الاسباني ميغيل دي سيرفانتس.

يختلف اللبنانيون حالياً بين مؤيد ومعارض للعهد الجديد في تفسير الأسباب الموجبة لوصول الجنرال ميشال عون الى سدة الرئاسة. ولكن في بلد اعتاد نوابه انتظار كلمة السر الإقليمية في الربع الأخير من الساعة التي تسبق الاستحقاق الانتخابي، لا طائل من النقاش في الأسباب طالما أن مصفوفة الحكم التي تنظم مصالح مكوناته صامدة بالرغم من كل رياح التغيير الشرق أوسطية.

الواقع الاقتصادي وأرقام النمو ومؤشرات الفساد والشفافية يعكس أزمة قابلة لأطاحة السلطة، غير أن النموذج اللبناني يثبت مرة أخرى أنه عصيٌ على التوقعات، كما الإصلاح العميق. فالظروف تقاطعت على تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية، بحسب ما هو معلنٌ حتى الساعة. ولا ريب أن ثبات حزب الله على موقفه المبدئي في دعم الجنرال كان عاملُا حاسماً في رسم المشهد. لكن اللحظة لم تحن إلا بإجماع إقليمي ودولي على توافقٍ صامت أحسن سعد الحريري إلتقاطه، مدفوعًا بحاجة شخصية للعودة إلى السلطة ولو عبر دعم مرشح حزب الله الأول، بعد أن فشل في إحراج الحزب بترشيح حليف الحزب الثاني الوزير سليمان فرنجية طوال أشهر مضت.

ظهر الحادي والثلاثين من تشرين الأول/ أكتوبر 2016 يصبح البحث في كيفية وصول الرئيس إلى قصر بعبدا خارج نطاق البحث، لينشغل اللبنانيون منذ تلك اللحظة بخارطة التحالفات السياسية التي لم يخفف من تشابك عقدها إنفتاح الرئيس سعد الحريري على رئيس رشحه جزء كبير من قوى الثامن من آذار. وفي محاولة رسم خريطة تحالفات سياسية مقبلة نستند إلى عوامل ومعطيات أهمها:

- بات معروفاً أن سوريا وإيران ينصتان لما يقوله السيد حسن نصرالله في لبنان. لن يكون صعبُا على السيد إقناع حليفيه الإقليمين بصواب خيار دعم العهد الجديد، بعد أن تجاوز النبرة العالية لرئيس تيار المستقبل في الآونة الأخيرة لمصلحة تسهيل رئاسة عون. في العمق، مصلحة دمشق وطهران في بقاء المقاومة وعدم وجود نظام محلي معادٍ لها. ولا يبدو أن هذه القاعدة ستشهد خرقا ملحوظًا في المدى المنظور في ظل صمود المحور وتقدمه – ولو ببطء – في الجبهات المشتعلة. بهذا المعنى، يجد حلفاء سوريا وإيران في قوى الثامن من آذار/ مارس هامشُا واسعاً للتحرك سياسيُاً مهما كان شكل الحكم المقبل، ما دام سقفه تحت ثابتة المسَ بالمقاومة. وبالتالي فإن معارضة الرئيس نبيه بري لرئاسة عون تندرج في إطار اللعبة الديموقراطية، وهي قد تُفرز في أسوأ الحسابات تعطيلاً لما هو معطّل أصلُا، كعجلة التشريع واتخاذ القرارات الحكومية. مع الإشارة إلى أنه من المستبعد أن يسير حزب الله بأي سياق يؤدي إلى عزل بري وحركة أمل في المرحلة المقبلة، ما سيدفع البلد إلى جولات من التهدئة والحوار والنقاش في القريب بهدف احتواء توازن القوى بين الأفرقاء في الثامن من آذار/ مارس المقبل.

- تحكم الحرب السورية و أزمة النازحين قواعد المصلحة الأميركية في لبنان في هذه المرحلة. ويكاد المراقبون يجمعون على أن الملف اللبناني خارج اهتمام واشنطن بحد ذاته لولا الحاجة اليه في تفاصيل سورية. على المدى المتوسط، يكرّس قائد القوات اللبنانية سمير جعجع زعامته المسيحية، بعد أن صار أحد أركان العهد الجديد. وفي حسابات واشنطن لا يمكن لهذا الأمر أن يكون خارج الترحيب، خاصة مع الموقف الواضح لجعجع المعادي لحزب الله. ولا يبدو متوقعاً أن تشهد مواقع أي من قوى الرابع عشر من آذار في العهد الجديد انقلابًا على ما تعتبره ثوابت لها، بل المرجح أن يزيد انقسامها لاعتبارات لها علاقة بأحجام تمثيلها في الحكومة، من دون أن تكون قادرة على التوصل إلى إطار جامع مختلف يرفع القضية الأولى التي اجتمعت هذه القوى حولها، أي معاداة الرئيس بشار الأسد والمقاومة. هذا الواقع سيُفرز الأقوياء داخل 14 آذار، والدكتور جعجع ربما يكون في مقدمهم.

- يمكن القول أن السياسة السعودية من لبنان غير واضحة المعالم في هذه المرحلة، مع انشغال المملكة بالملفات الإقليمية الساخنة، والحاجة إلى مساحة من الوقت لتقويم سياساتها في لبنان في الأعوام الأخيرة، بعد أن تبينّ أن مراهناتها لم تغير في موازين القوى، بل زاد من إصرار حزب الله وقدرته على حشد بيئته من حوله. ومع استمرار الرهان على الرئيس الحريري الذي يحتاج إلى رضى الخصوم لترؤس الحكومة وإدارتها، هناك من يهمس في أن الموقف السعودي النهائي من الواقع اللبناني المستجد قد يكون مرتبطًا بطريقة أو بأخرى بما يجري في اليمن. وسواء صحّ هذا التحليل أم لم يصح، فالمرجح أن هامش المناورة السياسية لحلفاء السعودية في لبنان قد بلغ أوجّه بترشيح الوزير فرنجية ثم الجنرال عون للرئاسة. فهل يقدر بعض معارضي الحريري في الشارع السني على تحقيق ما عجز عنه حليف السعودية طوال سنوات، أي هزيمة حزب الله سياسيا؟ ولفرنسا وقطر وتركيا وروسيا أيضاً مصالحها في لبنان، لكنها في الخطوط العامة قد لا تخرج عن سياق مصالح لاعبي الصف الأول في الولايات المتحدة وإيران (ومعها سوريا) والسعودية.

أمام هذا الواقع الشديد التعقيد، تشكل الإنتخابات النيابية العملية السياسية الأصعب في رسم التحالفات، مع الإشارة إلى أنه لا يزال من المُبكر الحديث عن أي شكل نهائي للحكم في لبنان في المدى المنظور ما دامت ملامح الحل في سوريا لم تتبلور بعد. فلبنان يعيش دوماً على حد قاعدة التاريخ التي أحسن سيرفانتس صياغتها بقوله إن:" طواحين الآلهة بطيئة لكنها تسحق حين تعمل".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com