بين اجتماع وآخر وبيان وآخر يسقط أبرياء، بين وعود وأخرى يسقط ويشرد أبرياء، بين كل الكذب الآتي من الغرب والشرق يسقط أبرياء ويموتون تحت الدمار. يسقط الأبرياء داخل بيوتهم ومستشفياتهم وفوق أسِرّتهم، يستغيث الأطفال من تحت الأنقاض ويموتون هلعا، وسط كل هذا الدمار ينهار ما تبقى من منظومة صحية ليواجه مئات وآلاف الجرحى مصيرهم المأساوي وحدهم. حلب هي «غرنيكا» القرن الـ 21، في ذلك الزمان قامت الطائرات النازية بتدمير المدينة الإسبانية فأحرقت الأخضر واليابس وقضت على أكثر من ثلثي سكانها انتصارا للديكتاتور المستبد فرانكو، كان فعلا وحشيا مروعا اهتز له كل ضمير حي في العالم، وكان افضل من عبر عن ذلك الهلع والموت والجريمة التي ارتكبت بحق الإنسانية هو الفنان بيكاسو في لوحته الشهيرة «غرنيكا» التي ما زالت حاضرة في أرجاء الكون.

وفي هذا الزمان، تتعرض مدينة حلب للدمار والموت وتتحول إلى «غرنيكا» جديدة يصنعها التحالف الروسي الداعم للنظام الأسدي، والتحالف الدولي الكابح لحرية الشعب السوري، والأمم المتحدة التي تقدم بعجزها الغطاء لنظام دولي دخل طور التوحش. في زمن جريمة «غرنيكا» كانت الحدود فاصلة بين معسكر النازية والفاشية ومعسكر الحلفاء، وفي زمن جريمة حلب يندمج المعسكران في الأهداف وفي أسلوب التوحش، يتفقان على اغتيال حرية شعب وفي منعه من ممارسة حقه في تقرير مصيره، ويتفقان على شطب وإخراج كل القوى الوطنية الديمقراطية والمدنية المستقلة ومعها مشروعها النقيض للاستبداد والدكتاتورية الدائمين من معادلة الصراع، ويتفقان على اللامبالاة إزاء النزف والموت والدمار والذعر والجحيم الذي يتعرض له شعب رائع وعريق، لكنهما يختلفان على حجم الحصص ومستوى النفوذ، يختلفان في الموقف من النظام القائم، بين موقف التحالف الروسي الذي يعمل بكل ما أوتي من قوة لاستبقاء النظام الدكتاتوري وحمايته والحفاظ على رموزه وبخاصة رئيسه بشار الأسد، وبين موقف التحالف الأميركي الغربي الذي يرغب في الحفاظ على النظام المستبد مع تغيير طفيف في الرموز وإضافة رموز من المعارضة المستأنسة. ويختلفان في الإخراج والخطاب الإعلامي، فالتحالف الروسي لا يكترث بمخرجات حربه الوحشية ولا يرف له جفن أمام مشاهد الدمار والموت والرعب التي تخلفها طائراته وصواريخه، لا يميز بين مستشفى ومدرسة ومخبز وبين مواقع المقاتلين وبين معارض معتدل وآخر متطرف.

أما التحالف الأميركي فيتباكى على الضحايا ويستعرض الانتهاكات ويستخدمها للضغط على التحالف الروسي من أجل تحسين شروطه – تكبير حصته - ولا يعمل شيئا من أجل وقفها، وكلاهما يريد القول للشعوب الأخرى وبخاصة الشعوب العربية: هذا هو مصير كل شعب يريد ان يثور على أنظمة الحكم.

ولكن، هل يختلف وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف؟ الاختلاف هنا يتبدى للناظرين والمستمعين في وضوح، لافروف حين يقوم بتعريف أهداف حلفه دون لعثمة، مقابل غموض كيري في بيع المواقف وإسداء النصح، وهناك اختلاف في قدرة لافروف على بث الطمأنينة في أوصال النظام التابع له انطلاقا من قناعته بإمكانية «إحياء العظام وهي رميم»، مقابل قدرة كيري في بث حالة من الشك والتشوش والضياع وفقدان الاتجاه في حاشية المعارضة والمعارضين من جماعاته، غير انهما يتفقان في خاصية جوهرية واحدة هي انعدام الرحمة في قلبيهم اتجاه المنكوبين عامة وفي كل مكان، الوصف موصول بالتشابه بين رئيسيهما، الرئيس بوتين الذي يحب الحرب حبا جما ويسعى من أجلها ما استطاع الى ذلك سبيلا ويتألق أثناء الحرب التي هي نقيض السلام. أما الرئيس أوباما فهو يكره الحرب ما عدا «القصف الجوي بطائرات دون طيار»، وما عدا الحرب بالوكالة، المهم ألا يرسل جنوده الى مواقع الصدام الأولى كي يتفادى عقدة بوش الأب والابن وجونسون ونيكسون في إشعال الحروب وإعادة الأميركيين في توابيت، وقد يكره الحرب حفاظا على جائزة نوبل للسلام التي حصل عليها دون أن يطفئ نيران الحروب في أفغانستان والعراق وسورية وفي فلسطين بؤرة الصراع الدائمة. وطالما افتُقِد الخلاف الجوهري بين القطبين، فلماذا لا يسمح حلف الولايات المتحدة، لحلف روسيا «ينتصر» في حلب كما انتصر في محور ساحل البحر حمص وحماة والزبداني ومضايا وداريا وغوطة دمشق وتدمر هذا الجزء من الوطن السوري الذي مورس فيه تجريف عرقي بعد إحالة المكان الى دمار، كذلك سمح بوجود محور سيطرة كردي مدعوم أميركيا، ومحور سيطرة تركي مدعوم أميركيا، وجيوب متعددة تسيطر عليها معارضة إسلامية مدعومة من دول خليجية – يعني أميركية – ومحور سيطرة الدولة الإسلامية – «داعش» – والنصرة في الرقة وإدلب وأماكن أخرى، وكل ذلك يترافق مع حرية الطائرات الإسرائيلية في التواجد على كل المحاور وفي استباحة السيادات الممانعة والمقاومة والروسية وممارسة الرقابة وتوجيه الضربات حيثما كان ذلك ضروريا لما يسمى بالأمن الإسرائيلي. كل المحاور تأسست أو بررت وجودها تحت هدف محاربة الإرهاب الذي تتعدد عناوينه وتتباين. الإرهاب بالنسبة للتحالف الروسي هو كل المعارضين للنظام، والإرهاب بالنسبة للتحالف الأميركي يتمثل في «داعش» وحدها، والإرهاب بالنسبة للمعارضة المدعومة خليجيا – أميركيا يتمثل في النظام الأسدي والحرس الثوري و»حزب الله» مضافا إليها «داعش»، الإرهاب بالنسبة لتركيا يتمثل بالقوى الكردية. هكذا تتعدد الأهداف لكنها تصب في هدف واحد هو «داعش» وكأن هذا التنظيم وجد بغية الاستخدام في تبرير التواجد والسيطرة وإعادة بناء سيطرة جديدة ثمنها الشعب والوطن (سورية).

بمنطق علاقات القوة تستطيع الولايات المتحدة أن توقف الحرب لمصلحة البحث عن حل سياسي. تستطيع ذلك بمجرد التهديد الجدي بضرب مواقع النظام والمليشيات الطائفية التي تقاتل إلى جانبه، بذريعة ارتكابها مذابح وجرائم حرب، في هذه الحالة لن تستطيع روسيا الاشتباك مع الولايات المتحدة و»الناتو» دفاعا عن النظام وستضطر الى التفاوض على حل سياسي، لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن الولايات المتحدة مع بقاء النظام ومع إعادة تقاسم سورية الذي يحتاج الى حسم المعركة في حلب لمصلحة النظام، ومن اجل ذلك فإن لسان حال أميركا: دع روسيا تنتصر في حلب! دع روسيا تعيد إنتاج «غرنيكا» جديدة في حلب! ما يحدث أكثر من جريمة بحق البشرية، هولوكوست جديد يرتكبه نظام دولي متوحش، ما يحدث يكفي لإيقاظ كل ضمير حي في أنحاء العالم، من اجل الاعتراض والاحتجاج والضغط لوقف الهولوكوست وكل أنواع التدخلات وكل أنواع السيطرة النيوكولونيالية والرجعية وكل أنواع الهيمنة التي تدوس على مصالح الشعب السوري وتنتهكها شر انتهاك. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com