بما تيسر من أدوات بسيطة وبدائية، ينشغل الأسرى بتسلية أوقاتهم، وصنع ذكرياتهم في سجون الاحتلال، واهداء أهاليهم وأحبتهم مطرزات تأخذ شكل الوطن والحب والتهنئة، يخطون عليها عبارات الشوق وتاريخ انتهاء العمل وأسماء السجون التي صنعوها بداخلها، موثقين بذلك مشاعر وأماكن غيرتها المرحلة، كسجون الفارعة والخليل وجنين ونابلس ورام الله، وغيرها من السجون التي أغلقت وتبدلت.

الكاتبة والباحثة المقدسية مليحة مسلماني، تحتفظ بدرع نسجه والدها الأسير المحرر علي مسلماني والذي أمضى 30 عاما في داخل سجون الاحتلال، أطراف الدرع مزخرفة بعلم فلسطين، وفي الوسط قلب حب متوج بصورة مليحة، بينما يتكاثف الخرز الملون على أجزاء الدرع.

تقول مليحة: كان والدي يخرج من أعماله في الأسر مجسمات للمسجد الأقصى وقبة الصخرة، ودروع لأشقائي، فشعرت بالغيرة، قبل أن يفاجأني بدرع يخصني ويحمل صورتي، وكتبت عن والدي رواية، وأعمل على مشروع فني يوثق رسائله من داخل الأسر على مدار الثلاثين عاما.

كان يستغل وقت فراغه في نحت قطع فنية وصنع ميداليات وأساور

أما الشابة صابرين ابو لبدة المولودة عام 1992، فتقول حول علاقتها بهدايا الأسر: قبل ولادتي دخل والدي إلى السجن لمدة ست سنوات، وذلك في العام 1985، وكان يستغل وقت فراغه في نحت قطع فنية وصنع ميداليات وأساور، كان الأسرى يأتون بحجر الصوان الصغار ويستمرون بنحته في الأرض، وتشكيله حسب أهوائهم. وفي بعض الأحيان يحفرون قطع بلاستيكية صلبة بواسطة دبوس لوضع تعليقة بداخلها، وهو أمر يتطلب طول بال وتحمل كبيرين.

وفي العام 2002 أعتقل عمي محمد ابو لبدة وزج في سجن مجدو، وفي أوقات الزيارة كان يتم ادخال الأدوات الخام اللازمة من صدف وقطع قماش مخملي وكرتون مقوى، وورق الكورنيش، وورق ملون، وأكياس خيش، وخيطان وصوف وخرز، في تلك الفترة أخرج لي عمي من داخل سجنه صندوقا صغيرا مطرزا بالصوف والكرتون المقوى، كما نحتفظ منه أعمالًا يدوية أخرى، منها مصحف مغلف بقماش مخمل أحمر، وبراويز متنوعة، اضافة إلى سفينة بحجم 34 سم طول وبعرض 17سم، مشغولة بأكملها من الصدف، وكان يمضي جل وقته في الأشغال اليدوية صانعًا العديد من القطع والتشكيلات لكن حرق سجن مجدو في تلك الفترة ونقل الأسرى إلى سجن النقب الصحراوي أضاع ما أنتجوه.

وتضيف، هذه الأشياء البسيطة لها معنى كبير لدي وأحتفظ بها جيدا، لأنها تجسد معاناة وشوق شخص لا تدري إن كنت ستراه مرة أخرى أم لا، وأمي ذات الشيء، تحتفظ بالأساور التي صنعها لها والدي قبل أكثر من ثلاثين عاما ولا تُظهرهم كي لا يتعرضوا للتلف.

 أستشهد بلال تحت التعذيب والتحقيق

خواتم من خرز، هو ما تبقى من ذكريات عبد الرحمن ابو زيد، ذكرى من شقيقه الشهيد بلال ابو زيد، والذي استشهد في سجن مجدو عام 1995، يقول عبد الرحمن: كنت صغيرا حين أستشهد بلال تحت التعذيب والتحقيق، وأصبحت المطرزات البسيطة التي تركها لنا ذكرى تعادل الدنيا، تحمل شوقه لنا، وغلاوته ورائحته فينا.

بعضهم لم يرجع، فقد صار شهيدا، وبعضهم صاغه الأسر وصنع منه ما صار عليه اليوم، وآخرون أجبرهم على المنفى، ومنهم من قاده الأسر إلى أمراض مزمنة، فعوق مسيرة حياتهم الطبيعية، وفي كل الحالات لم ينسَ أسير أهله وأصدقاءه، صانعًا بينه وبينهم وصلة، من عتمته وقضبان الحديد، عبر المطرزات والمجسمات والرسائل الورقية والأشكال الفنية البسيطة، مقربا المسافة بذكريات عمية تحفر العلاقة، وتتحول إلى وثيقة تُزين جدرانهم وحقائبهم ودفاترهم، ذكرى لا تنتهي، تحمله إليهم، وينتظرونه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com