يجلس الفنان الحرفي نافذ عابد في غرفة مغطاة بالأسبست، على سطح منزله في مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، وبيده إبرة يشكل بواسطتها قطعة من الرخام على شكل قبضة خنجر روماني.

ويتوسط عابد (55 عامًا) الغرفة واضعًا على نوافذها قطعًا أثرية جمعها على مدار 25 عامًا، ومنحوتات ولوحات فسيفساء مقلدة من صناعة يديه.

الغرفة الصغيرة تلك؛ يحب عابد أن يطلق عليها ورشة العمل، حيث يقضي فيها جُلَّ أوقاته، ويقول لوكالة "صفا": "أقضي كل الشتاء بين منحوتاتي ويراعاتي الشاكوش والإزميل الصغير".

ويستخدم في نحته اليدوي "المفك، والإزميل، والإبرة"، وهي الأدوات المستخدمة منذ أكثر من خمسة آلاف سنة، في صناعة تلك الفخاريات والفسيفساء.

ويتقن عابد ترميم الفخار وتقليده بأنواعه وأشكاله وألوانه، ويصنع بيديه أسرجة، وزخارف، وخواتم، ورؤوس، وتماثيل، ولوحات الفسيفساء، ويشكل حجارة المرمر، والجير، والصدف.

ويصنع المواد الخام بيديه، ويُطعّمها بالفخار القديم، عبر طحنه وخلطه بالفخار الجديد، فينتج بعد ذلك منتجًا أثريًا راقيًا.

فن المقلدات

ومارس الفنان هوايته في جمع وتقليد الآثار عام 1988م، بعد خروجه من الاعتقال، حيث بدأ في البحث عنها، ثم في نحت الصخور والرخام لتحصيل مصاريف عيشه.

ويضيف "أنا لم أدرس ذلك، لكنني بتت خبيرًا في النحت وصناعة المقلدات من خلال التجربة".

وتعد "المقلدات" عصب المتاحف، حيث تخاف إدارة المتاحف من سرقة المنحوتات الأصلية، فتضطر إلى إعادة صناعتها، وعرض الـ"المقلدات" على أنها الأصل.

ويحترف عابد صناعة "المقلدات"، حتى أنه سُمي الأول بهذه الصنعة، ويقول إن إجادتها تكمن في إعطائها الطابع الأثري أو التعتيق، ولم يفصح عن ماهية تلك الطريقة التي يتبعها في ذلك "حفاظًا على سر المهنة".

لكنه استدرك بقوله: "أعطيت تلك الطريقة لطلاب الهندسة المعمارية بمركز إيوان في الجامعة الإسلامية، حينما عملت مدرسًا هناك عام 2010، وخرجنا بـ14 لوحة من الفسيفساء تجسد بوابات المدن الفلسطينية الكبرى".

ويملك العامل بوزارة السياحة والآثار سابقًا في غرفته مراجع وكتبًا مختصة بترميم الآثار والفخار المكسور، والتي تكون مع فرق التنقيب في قطاع غزة بالشراكة مع دول أجنبية.

ولم يقتصر عمله على "المقلدات" الفخارية، بل تعداها لتقليد الفسيفساء، والتي يستوحي أشكالها من الكتب والمراجع، ومكان عمله بكنيسة جباليا، والتي قلّد أغلب الفسيفساء الموجودة فيها بشكل مصغر.

تبدو أصلية

ويبين أنه كان يعمل مسؤولا عن ترميم الآثار الفخارية وتصليح لوحات الفسيفساء بوزارة السياحة والآثار، مشيرًا إلى أن وكيل وزارة السياحة حينها أخذ منه مقلدات من الأسرجة كهدية للمتحف البولندي، وتم اعتمادها هناك على أنهاء أصلية، رغم الإيضاح لهم أنها مقلدة.

ويضيف "البولنديون ظنوها أصلية غير مقلدة، ووضعوها بعد الفحص في المتحف الرسمي، رغم أنني كتبت عليها اسمي ورقم جوالي".

وخلال مسيرته الفنية تعرف على مجموعة من باحثي الآثار الفرنسيين عام 1994م، فأراد اختبارهم بعرض "مطرةً فخارية" مقلدة عليهم، فظنوا أنها أصلية، لكنه كشف لهم أنها من صناعته.

ويقول: "رئيس البعثة الفرنسية تفاجأ وذُهل عندما أخبرته أنها من صنعي".

وعلى إثر ذلك الاختبار سافر إلى باريس، لأخذ دورة في الترميم، لكن مدير المعهد الفرنسي باترك برين استهجن أن مدرسًا وخبيرًا في ترميم الآثار؛ سيأتي لتعلم ترميم الفسيفساء.

وعمل عابد بعد تلك الدورة مع عالم الفسيفساء "بشرلو" في قصر هشام بأريحا لمدة ستة أشهر، حيث كان ضمن الأربعة الذين يمثلون الوفد الفلسطيني المسؤول عن الترميم.

اعتزاز بالتراث

ولفت خلال حديثه لـ"صفا" إلى أن القنصل السويسري عرض عليه العمل في متحف جنيف، وجدد العرض مدير المتحف وزوجته حينما زاراه في بيته، لكنه يقول إنه رفض ذلك "حفاظًا على التراث الفلسطيني وترميمه، ولتعليم الأجيال القادمة".

ويبيع الفنان ما تصنع يداه من المنحوتات المقلدة، ليعتاش بعدما قطع راتبه من الحكومة الفلسطينية في رام الله بعد العام 2007، ويؤكد أنه لا يفرط بالقطع الأصلية، ولا يمكن أن يبيعها.

ويوضح أن هناك ضعفًا عامًا في الحركة السياحية بعد الحصار على غزة، مما أضعف مبيعاته التي كان يسوقها للوفود والأجانب الذين يزينون بها بيوتهم، متحسرًا على تكدس تلك المقدات داخل بيته.

أكذوبة "الشمعدان"

وتحدى عابد اسرائيل بشعاره المكذوب "الشمعدان"، والذي أوضح أنه وجد على "سراج" في المكتشفات بشمال أفريقيا، والتي كانت تحت الحكم الروماني، وليس تراثًا إسرائيليًا خالصًا، كما يدعون.

وأظهر ذلك لوكالة "صفا" بنسخة يمتلكها من كتاب صدر عام 1978 عن الجامعة العبرية في القدس، مبينًا أن بعض "العملاء" كما وصفهم، ساوموه على بيع هذا الكتاب إلا أنه رفض.

ويحث عابد على شراء المقلدات التي هي صورة من صور الاعتزاز بالتراث، وفق ما يقول، ويطمح لبناء مدرسة للفسيفساء تكون "ثروة قومية، وفرصة لتصدير هذه الإبداعات اليدوية".

ويعاتب الجامعات الفلسطينية التي لا تخصص مساقًا خاصًا بصناعة الفسيفساء بتخصص الآثار، آملًا أن تقوم الوزارة ومؤسسات السياحة والآثار والفنون بنشر كتاب لتوعية الشعب بالفنون والآثار وتسمياتها واستخداماتها القديمة.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com