لا يصح إسقاط المعطيات القائمة حالياً لتكون أدوات الحكم عل كل تجربة الرئيس أردوغان وحزبه منذ الوصول الى الحكم في تركيا. نحن في الواقع أمام حالين يختلفان في الجوهر وفي السمات. والاختلاف يطال كل جوانب التجربة تقريباً، ولكنه يبدو أوضح في مجالي الديمقراطية الداخلية، والعلاقة مع الجوار.

الحال الأولى، امتدت لما يزيد على ثماني سنوات وكانت مبهرة في نجاحاتها وتقدمها، وحققت إنجازات ملموسة في اكثر من مجال.

الإنجاز الأول، كان النمو الاقتصادي الواسع الذي شهدته البلاد والذي انعكس تقدماً ملحوظاً في مستوى معيشة ورفاهية المواطن ومضاعفة معدل دخله السنوي اكثر من مرة، مع تطور ملحوظ في مستوى الخدمات التي تقدمها الدولة للمواطن في التعليم والصحة ومجالات حياته الأُخرى.

والإنجاز الثاني، كان المقاربة الذكية والناجحة لموضوع الدين، بالذات في علاقته بالديمقراطية وحرية الرأي واختيار نمط الحياة، ودون ان يؤثر على مدنية الدولة وقوانينها. مع ان الحزب الحاكم هو حزب ديني.

وقد بدا نجاح المقاربة وكأنه اختبار ناجح للزواج بين الدين والديموقراطية، يقدم نموذجا يمكن ان يتّبع وان يتكرر في بلدان أُخرى.

والإنجاز الثالث، كان النجاح في تطبيق سياسة حسن الجوار مع كل دول الاقليم وفتح الأبواب أمامها وإلغاء تأشيرات الدخول لمواطنيها، ثم انتهاج سياسة «صفر مشاكل» معها.

أما الإنجاز الرابع، فكان أولوية الطابع الوطني التركي والحفاظ على مسافة محسوبة مع الدول الغربية، وأميركا بالذات.

لكن الأهم في هذا الإنجاز كان موقف المناصرة للشعب الفلسطيني وحقوقه ونضالاته، ما ادى الى التشاحن مع الكيان الصهيوني والى تراجع ملموس في علاقة التحالف التي كانت سائدة معه لسنوات طويلة.

ولا بد من إضافة الى ما تقدم، الكاريزما التي تمتع بها أردوغان نفسه.

كل ما تقدم اكد بجلاء تام وجود مشروع تركي يشمل المنطقة. وجعل التجربة التركية محط إعجاب وتطلع مواطني المنطقة وبالذات العرب منهم.

كما لمع نجم أردوغان، زعيما يحظى بمقبولية تصل حد التعلق، خصوصاً وان المنطقة العربية تعيش جوعاً الى الزعامة الكاريزمية الجامعة بعد رحيل عبد الناصر.

اما الحال الثاني، وهو القائم حالياً، فيكاد يكون نقيضاً للحال الأول بكل إنجازاته المذكورة. وكأنّ كل ما تم تحقيقه في الحال الأولى لم يكن اكثر من تقدمة لدخول الحال الثانية وإنجاز الأهداف المركزية الحقيقية لأردوغان وحزبه.

يمكن الادعاء أن نقطة الدخول الى الحال الثانية كانت وصول حركة الإخوان المسلمين الى الحكم في مصر. هناك اصبح ممكناً ان يكشف حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عن حقيقة انه فرع من حركة الإخوان المسلمين العالمية.

وهناك وصل الحزب الى القناعة انه بتحالفه مع الحكم في مصر حيث القيادة التاريخية للإخوان ومع ثقل مصر في المنطقة، يمكن تحقيق الهدف المركزي بإقامة حكم الإخوان في عموم المنطقة. وهناك بدأت الطموحات الشخصية لأردوغان بالظهور. وهناك انتهت سياسة حسن الجوار لتحل محلها سياسة التدخل في الدول المجاورة لفرض انخراطها في المسار الإخواني المرسوم.

البداية لهذه السياسة كانت في سورية، فقد لعبت تركيا دور القاعدة الآمنة والمنطلق للمعارضة السورية بمعظم أطيافها ووفرت لها، منفردة او مع آخرين، الدعم السياسي واللوجستي والمادي. وشكلت الممر الآمن لهذه المعارضة وقواتها وسلاحها وتجهيزاتها، ولمسروقاتها أيضا، بدءاً من الجيش الحر، ثم الفصائل الأُخرى مهما كانت درجة عنفها وإرهابها. وقامت تركيا بهذا الدور بتوافق وانسجام في الجوهر مع المخطط الغربي بقيادة أميركا، مهما طفا على السطح من تعارضات ثانوية.

والبداية بسورية جاءت عن قناعة سياسية واستقراء تاريخي، بان السيطرة على سورية هي بوابة السيطرة على كل المنطقة المحيطة. ولم تحل أولوية سورية عن مدّ اليد الى ساحات أُخرى مثل حركة حماس في محاولة لاحتوائها.

لم يكن ممكنا ان يتراجع التدخل التركي فور السقوط السريع لحكم الإخوان في مصر، بل تواصل واستمر وأصبحت تركيا، منفردة تقريبا، هي قيادة وقاعدة ومنطلق حركة حركة الإخوان العالمية.

لكن السمات والخصائص والمصالح التركية، والطموحات الشخصية لقيادتها بدأت تحتل موقع الصدارة وأخذت تطغى على ما عداها، وهو ما وفر مصداقية للحديث العالي الوتيرة عن الحلم التركي باستعادة الخلافة العثمانية - وان بشكل يناسب العصر- بداية بـ « شام شريف» وعن عودة السلطان بنسخة أردوغان.

في هذا المسار تراجعت او سقطت المنجزات التي تحققت في الحال:

الأول: تراجع معدل النمو الاقتصادي، وسقطت المقاربة الذكية لموضوع الدين ووصل اختبار الزواج بين الدين والديمقراطية الى حافة الطلاق، وتراجعت الديمقراطية بشكل ملحوظ لصالح إجراءات بوليسية تطال حريات الناس، وتقلصت كثيرا مسافة البعد عن الدول الغربية على حساب الطابع الوطني.

وحدها العلاقة مع الكيان الصهيوني لم تتغير كثيرا ولم تعد إلى ما كانت عليه من التحالف، لأنها تخدم تحقيق الأهداف المركزية.

أما أردوغان نفسه، فمع طموحات السلطنة، بدأ يكتسب كل الصفات الممجوجة لحاكم: ألاعيب سياسية، تركيز للصلاحيات وسيطرة على مفاصل السلطة والقرار، والسعي لفرض نظام الحزب الواحد والرجل الواحد، محاربة وقمع كل معارض تحت يافطة التآمر الخارجي، الركض نحو مظاهر الأبهة والفخامة كما في القصر شديد البذخ الذي بناه، او في استعراضية تشكيل حرس الشرف.

لكن، لا سورية تمت السيطرة عليها ولا يبدو انها ستتم، ولا فروع حركة الإخوان نهضت ولا يبدو أنها ستنهض، ولا أهداف حركة الإخوان تحققت ولا يبدو أنها في وارد التحقق.

ما تحقق أن نجماً قد هوى على مذبح طموح سلطان لن يتحقق.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com