تنشر منظمة حقوق الإنسان الإسرائيليّة، "بتسيلم"، اليوم الأربعاء، تقريرًا عن سياسة قصف البيوت السكنيّة في غزة أثناء عملية "الجرف الصامد".

ويتطرّق التقرير إلى أكثر الصفات المميّزة والمثيرة للذعر للقتال الذي دار في القطاع أثناء الصيف المنصرم: عمليّات قصف قتلت مئات الأشخاص -أكثر من ربع الفلسطينيّين الذين قتلوا خلال القتال، والقصص المتكرّرة لعائلات فلسطينيّة وقتلاها الكُثُر، وعائلة بعد عائلة انهار ودُمّر بيتها وحياتها في ثانية واحدة.

وقال التقرير انه لم تكن هذه الاعتداءات مبادرة ذاتيّة من الجنود أو الطيّارين أو القيادة الميدانيّة، بل تعبير وانعكاس للسياسة التي وضعها المستوى السياسيّ الإسرائيليّ والمستوى العسكريّ الإسرائيليّ الرفيع. وحتى لو اعتقدت الحكومة الأسرائيلية أنّ تطبيق هذه السياسة سيؤدّي إلى وقف إطلاق القذائف على البلدات الإسرائيليّة، فإنّ تطبيقها يظلّ محظورًا بسبب نتائجها المتوقّعة والفظيعة، وبسبب الراية السوداء التي ترفرف فوقها.

وأرسلت بتسيلم التقرير قبل نحو أسبوع إلى رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو للحصول على ردِّه. وكتب مدير عام بتسيلم، حجاي إلعاد له: "لقد دعمت المستويات الرفيعة بقيادتك، الاعتداءات على البيوت، وكرّرت مرة بعد أخرى الادّعاء القائل بأنّ هذه الاعتداءات تستوي مع أحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ، وتنصّلت من أيّ مسؤولية عن المسّ بالمدنيّين، وألقت بكامل المسؤوليّة على كاهل حماس. إلا أنّ هذا التفسير يهدف لصدّ أيّ ادعاء سلفًا ضدّ إسرائيل، وهذا يعني أنّها متحرّرة من أيّ قيد كان، وأنّ أيّ ردّ من طرفها على أفعال حماس، مهما كانت نتائجه فظيعة، هو ردّ شرعيّ. هذا التفسير غير معقول وغير قانونيّ، وهو يفرغ من مضمونها القاعدة التي تنصّ على عدم انعتاق الطرف الثاني من واجبه تجاه السكان المدنيّين والمواقع المدنيّة."

وتشدّد بتسيلم في التقرير على أنّ حماس انتهكت أحكام القانون الإنسانيّ الدوليّ، وعلى الأخصّ الواجب الملقيّ عليها بالتمييز بين الأهداف المدنيّة وبين الأهداف العسكريّة: فلم ينحصر الأمر في أنّ حماس أطلقت النار صوب مدنيّين إسرائيليّين وأهداف مدنيّة إسرائيليّة، بل أنها فعلت ذلك من خلال نشاط أفرادها من داخل السكان المدنيّين، وهم يطلقون النار من أماكن مجاورة لبيوت المدنيّين، ويدفون السلاح في بيوت المدنيّين ويحفرون الأنفاق من تحتها. لكن، وكما أسلفنا، فإنّ انتهاكات حماس هذه لا تعفي إسرائيل من واجباتها.

نتائج التقرير:

لقد اتضحت معالم النتائج الفتاكة لسياسة الاعتداء على البيوت، أثناء القتال الذي دار في الصيف، وحذّرت بتسيلم بخصوصها فورًا. وقد سمح انتهاء القتال لبتسيلم بفحص حالات كثيرة إضافيّة قُتل فيها مدنيّون خلال عمليّات القصف، وفحص باحثو بتسيلم في غزة وبعمق نحو 70 حادثة قُتل فيها ثلاثة أشخاص وأكثر، أثناء مكوثهم في بيوتهم. قُتل في هذه الأحداث في المجمل 606 فلسطينيًّا. غالبيّتهم الكبيرة لم يشاركوا في القتال: نحو 70% منهم كانوا دون سن الثامنة عشرة أو فوق سنّ الستين أو من النساء. الحالات الـ 13 الواردة في التقرير، قُتل فيها 179 شخصًا. بتسيلم ستواصل نشر الاستقصاءات حول أحداث إضافيّة تتعلق بالمسّ بالمدنيّين أثناء عملية "الجرف الصامد"، في الأسابيع المقبلة.

إنّ فحص هذه الحالات يشير إلى أنّ الجيش الأسرائيلي عمل في بعض الحالات على الأقلّ خلافًا لتعليمات القانون الإنسانيّ الدوليّ، فيما يُشتبه جدًّا بفعله ذلك في حالات أخرى.

وتنعكس فظاعة ما حدث من خلال الإفادات التي جمعها باحثو بتسيلم من سكّان البيوت ومن شهود عيان: فمرة تلو الأخرى، يتحدثون عن عجزهم ويأسهم عندما أدركوا أنّهم غير قادرين على حماية أولادهم وأنفسهم حتى في داخل البيوت، والألم الفظيع غير المحتمل في أعقاب فقدان عائلة بأكملها.

ومن الاستقصاء الذي أجرته منظمة بتسيلم يتّضح وجود ثلاثة أسباب أساسيّة أدّت إلى مقتل هذا العدد الكبير من المدنيّين:

أ. تعريف فضفاض لـ "هدف عسكريّ" يُسمح المسّ به

في أثناء القتال، قصف الجيش الأسرائيلي عشرات المباني السكنيّة التابعة لناشطي حماس والجهاد الإسلاميّ. ومن الممكن أن تشكّل هذه المنازل أهدافًا عسكريّة شرعيّة، شريطة أن تلبي متطلبات الاختبار المزدوج الذي وضعه القانون الإنسانيّ الدوليّ بأنّ مبنًى ما يشكّل "هدفًا عسكريًّا": يجب على المبنى أن يسهم إسهامًا فعّالاً في النشاط العسكريّ ويجب على المسّ به أن يمنح أفضليّة عسكريّة جليّة للجهة المعتدية.

خلافًا لذلك، لم تدّعِ أيّ جهة رسميّة أسرائيلية وجود علاقة بين بيت سكنيّ هوجم وبين أيّ نشاط عسكريّ جرى فيه، وبدلاً من ذلك، اكتفت هذه الجهات بتفصيل ضلوع أصحاب البيوت في النشاطات الموجّهة ضدّ إسرائيل في الراهن والماضي، أو بتوصيف نشاطات يمكن أن تتلخّص بمحادثة هاتفيّة أو لقاء، يمكن إجراؤهما في أيّ مكان. وفي ظلّ غياب معلومات عينيّة بخصوص الإسهام الفعّال للبيت في النشاط العسكريّ، والأفضليّة العسكريّة الجليّة المتوقّعة نتيجة لهدمه، فإنّ حقيقة كون البيت بملكيّة ناشط في الذراع العسكريّة لحماس أو الجهاد الإسلاميّ لا تحوّله إلى هدف عسكريّ شرعيٍّ يُسمح بالمسّ به.

ب. تفسير مَرن لمصطلح "ضرر عرضيّ" قانونيّ

تلتزم القوّات المقاتلة بالعمل وفق "مبدأ التناسبيّة"، الذي ينصّ على وجوب الامتناع عن هجوم ما إذا ما كان المسّ المتوقّع بالمدنيّين نتيجة له مبالغًا به، قياسًا بالأفضليّة العسكريّة المرجوّة من وراء هذا الهجوم. يُفحص حجم الهجوم بناءً على التوقعات بخصوص الضرر المتوقع الذي سيلحق بالمدنيّين والأفضليّة العسكريّة التي ستنجم عنه، وليس بناءً على الضرر الذي يقع فعلاً. وعليه، فإنّ الإجابة على السؤال حول ما إذا كان الجيش الأسرائيلي قد تصرّف وفق مبدأ التناسبيّة أم لا، مرهونة بالمعلومات التي كانت متوفّرة لديه أثناء تنفيذ الهجوم.

لكن، في كلّ قصف كهذا انهارت فيه البيوت فوق رؤوس ساكنيها، قُتل مدنيّون لم يكونوا ضالعين في القتال. وبعد وقوع هجمات متكرّرة كهذه، كان على صُناع القرار توقُع المسّ الجسيم الذي تلحقه مثل هذه الهجمات. ورغم ذلك، تواصلت هذه الهجمات على طول فترة القتال ولم يطرأ أيّ تغيير على سياسة إطلاق النار على البيوت. وقد امتنعت جهات رسميّة –من الجيش وخارجه- عن التطرّق إلى حالات عينيّة، وبدلاً من ذلك كرّرت طيلة الوقت الادّعاء العام بأنّ الجيش الأسرائيلي ينشط وفقًا لمبدأ التناسبيّة. ولكن، ومع غياب إثبات بأنّ الأفضليّة العسكريّة التي توخّى الجيش تحقيقها عبر هذه الهجمات كانت جليّة وحقيقيّة، فلا مفرّ من التوصل إلى الاستنتاج القائل بخرق هذا المبدأ.

جـ. غياب الإنذارات أو إصدار إنذارات غير فعّالة

سعيًا لتقليص المسّ اللاحق بالمدنيّين، طُولبت القوات المقاتلة بمنحهم إنذارًا ناجعًا مسبقًا قبل الاعتداء، "إلا إذا لم تسمح الظروف بذلك". في أثناء القتال، استخدم الجيش الأسرائيلي وسيلتي إنذار أساسيّتيْن:

الأولى، إنذار لسكان بيت معيّن بأنّ الجيش على وشك الهجوم، بواسطة مكالمة هاتفيّة أو إطلاق صاروخ صغير نسبيًّا على سطح البيت. إلاّ أنّ هذه الإنذارات لم تكن فعّالة دائمًا: فأحيانًا لم يكن يُمنح السكان ما يكفي من الوقت لترك بيتهم، وأحيانًا لم يكن من الواضح عن أيّ بيت مستهدَف يتحدّثون. وفي حالات أخرى قام السكان الذين تلقوا الإنذار بترك البيت فعلاً، إلا أنّ القصف لحق بيوتًا مجاورة أيضًا أصيب سكانها الذين لم يتلقوْا إنذارًا. وفي بعض الحالات التي فحصتها بتسيلم قال سكّان البيت إنّهم لم يتلقوْا أيّ إنذار قبل الاعتداء على البيت، ولذلك لم يتركوه. لا تملك بتسيلم إمكانية البتّ في ما إذا كان الجيش الأسرائيلي وجّه إنذارًا لهؤلاء السكان ولم يُفهم، أم أنّه لو يوجّه بتاتًا مثل هذا الإنذار.

الثانية، مطالبة السكّان بمغادرة مناطق واسعة، عبر توزيع المناشير. وقد قام عشرات آلاف السكان، فعلاً، بإخلاء بيوتهم في أعقاب هذه الإنذارات. لكن، وفي بعض الحالات التي استقصتها بتسيلم، قُتلت بالذات العائلات التي فرّت من بيوتها في أعقاب أوامر الجيش الأسرائيلي إلى الأحياء التي اُعتبرت أكثر أمانًا.

وتقول بتسيلم في التقرير إنّ القتال ضدّ حماس يفرض حقًا تحدّيات بالغة الصعوبة: كيف يمكن في مثل هذه الظروف التمييز بين الأهداف العسكريّة الشرعيّة وبين المواقع والأشخاص المدنيّين؟ كيف يمكن الامتناع عن إلحاق الأذى بالمدنيّين الذين لا يشاركون في القتال، إذا كان ناشطو حماس يطلقون القذائف على بلدات إسرائيليّة من داخل التجمّعات السكنيّة؟ لا تدّعي منظمة بتسيلم أنها ستقدّم للحكومة الإسرائيليّة وللجيش مخطّطات عينيّة واضحة لإدارة القتال في غزة: هذه ليست مهمّة منظمة حقوق إنسان. الحكومة هي التي تتحمّل مسؤولية العثور على طرق لمواجهة هذه التحدّيات، من خلال الحفاظ على البُعد الإنسانيّ وعلى أحكام القانون.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com