فيما تعلو أصوات دول كثيرة تدعو إلى ضبط النفس بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، تواصل الأخيرة حربها المفتوحة على الفلسطينيين، ضمن سيناريو خططت له على المقاس الذي يناسبها، والذي تزامن مع خطف وقتل مستوطنيها الثلاثة.

إسرائيل التي عانت في الفترة الأخيرة من العزلة الدولية بعد إصرارها على استكمال المفاوضات بناءً على شروطها، وتعطيلها لها، إسرائيل وجدت ضالتها في مسلسل خطف مستوطنيها، لأنها كانت بحاجة إلى أي فعل فلسطيني يمكنها من وضع نفسها في موقف المدافع.

السيناريو الإسرائيلي أخذ البعد الآتي: إرهاق الفلسطينيين وضربهم من جديد، حتى لا يرتاحوا كثيراً وحتى يظلوا يربطون قضاياهم المهمة بأوضاعهم المعيشية والحياتية اليومية، دون أن ينتبهوا إلى طبيعة الصراع مع الاحتلال وأشكاله المختلفة.

كانت البداية في الضفة الغربية، عبر إعادة احتلالها بشكل يخدم المصالح الأمنية الإسرائيلية ويبسط سيطرتها أكثر ويعزز من تواجدها هناك، والأمر الثاني تدمير العديد من المؤسسات هناك واعتقال فلسطينيين، حتى يظل كل الهم الفلسطيني منصبا ومحصورا أساساً في موضوع الأسرى والإفراج عنهم.

أما قطاع غزة، فأراده نتنياهو مسرحاً لحرب إسرائيلية يستثمرها لحرف مسار الهبات الجماهيرية التي جرت في الضفة الغربية والداخل الفلسطيني، ومن أجل إضعاف بنية حماس العسكرية، خصوصاً وأنه تناهى لدى قيادات إسرائيل أخبار عن وجود قذائف لدى المقاومة الفلسطينية تصل إلى تل أبيب وما هو أبعد منها.

في حقيقة الأمر، إسرائيل وحدها من أفشل التهدئة وخرقها بضرب قطاع غزة، وهي بحثت عن أسباب الخرق حتى تستثير فعلاً من حماس والمقاومة، وحتى تتعرف على إمكانيات الأخيرة العسكرية، والأهم من ذلك آخر ما توصلت إليه من قدرات تسلحية صاروخية.

ثم إن إسرائيل ليست بريئة من فكرة تجريب أسلحتها الحديثة، واختبار منظومة القبة الحديدية التي يجري تطويرها للتأكد من قدرتها الكاملة على صد القذائف الفلسطينية، إلى جانب فكرة مهمة تحاول إسرائيل تسويقها، وتقوم على اعتبار أنها الضحية التي تسعى إلى تصحيح صورتها أمام الرأي العام العالمي.

كيف ذلك؟ لو قرأنا التصريحات الصادرة عن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وكذا كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، سنجد أن جميعها مضافاً إليها تصريحات أخرى صادرة عن عدة دول، تدين ما تسميه الصواريخ الفلسطينية التي تستهدف المدنيين الإسرائيليين.

تلك الدول تقول إن كل الحق مع إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأنها مع سياسة ضبط النفس بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويبدو هنا أنها ساوت تماماً بين قذيفة فلسطينية بدائية الصنع هي أهم سلاح فلسطيني في قمة الهرم التسلحي لدى الفصائل، وبين صاروخ الإف 16 الذي يزن من ربع طن إلى طن واحد، ولديه قدرة تدميرية تناهز تلك القذيفة البدائية بآلاف المرات.

المجتمع الدولي لم يراع أن إسرائيل هي التي بدأت الحرب على الفلسطينيين، وأكثر ما همه هو توجيه إدانة للمقاومة لأنها روعت المدنيين الإسرائيليين؟ هذا الذي كانت تريده إسرائيل وهي تشتغل عليه بحجة أنها تدافع عن نفسها وأنها في موقع الضحية من الجلاد!!

إن نتنياهو شديد الاقتناع بأن حربه هذه ليست إلا جولة جديدة من الصراع مع الفلسطينيين، فهو مختلف مع وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان في أن الأخير يريد إعادة احتلال قطاع غزة، بينما نتنياهو يرى أن الأولى هو إضعاف وتوجيه ضربة على رأس حماس.

هذا الخلاف بين الرجلين، جعل ليبرمان يفض شراكته مع نتنياهو في موقع الحزب "إسرائيل بيتنا" لا المنصب الوزاري، الأمر الذي يزيد الضغط على رئيس الحكومة من أجل إظهار الوجه الأكثر قسوة في تصريف الحرب ضد الفلسطينيين في القطاع.

نتنياهو يعتقد أن من مصلحته بقاء حماس في غزة، لأن وجودها بنظره سيخدمه في أكثر من جانب: الأول أن ذلك سيعني بالنسبة له العودة إلى مسلسل الانقسام وضرب المصالحة في وقت من الأوقات، والثاني أن اختفاء حماس عن خارطة الحكم ربما سيفتح الباب برأي نتنياهو لظهور قوى جديدة يعتبرها أكثر تطرفاً من هذه الحركة.

الأمر الثالث أن نتنياهو يعتبر قطاع غزة أفضل ميدان اختبار حقيقي للقوات الإسرائيلية، وإسرائيل تحتاج كل الوقت إلى الاستنفار، وفي حين تحاصر قطاع غزة وتضيّقه بالحدود والمراقبة الأمنية النشطة، فإنها تنظر إليه على أنه غيتو "جُديمغرافي"، الأنسب للتجمع الفلسطيني ولولادة دولة هناك.

وعلى كل حال وبعيداً عن السيناريو الإسرائيلي، فإن نتنياهو ومعه وزير الدفاع موشي يعالون، أوعزا بتوسيع حربهم المفتوحة على الفلسطينيين في القطاع، لكن هل ستأتي هذه الحرب أكلها وتحقق المنفعة لإسرائيل التي تقيس كل مواقفها بالمسطرة؟

على الأرجح أن هذه الحرب لن تحقق نتائجها كما حصل تماماً مع الحربين السابقتين "الرصاص المصبوب" و"عمود السحاب"، لكن فكرة نتنياهو في إطلاق هذه الهجمة الشرسة تقوم على الإضعاف التدريجي لقوة حماس، وحيث تواظب إسرائيل على شن الحروب، يتبعها ضرب شبكة الأنفاق ومحاولات تجفيف منابع القوة لدى الحركة.

إن تحقيق النتائج التي تتمناها إسرائيل سيعني الذهاب إلى حشد القوات البرية وإعادة احتلال القطاع بعض الوقت، لأن الهدف الأساس للاحتلال هو وقف القذائف الفلسطينية وتدميرها، ويبدو هذا أمر صعب على حكومة نتنياهو للقيام به لأنه سيكلفها الكثير.

ويبدو أن فكرة اجتياح القطاع ليست سهلة أبداً على نتنياهو الذي يتحسب لها ألف حساب، الأمر الذي قد يشير إلى أن إسرائيل ستواصل حربها على الفلسطينيين عن بعد، إلا إذا استجد جديد من قبل المقاومة استدعى بنتنياهو لدفع جيشه نحو غزة.

هذه ليست مسرحية كما يحلو للبعض وصفها، وهي فرضت على الفلسطينيين فرضاً، ومن حقهم الدفاع عن أنفسهم، خصوصاً وأن آلة الحرب الإسرائيلية لا تفرق بين مقاوم ومدني، وهي تضع الجميع تحت "المدق".

لعلنا أمام جولة قوية ومتدرجة من التصعيد الصهيوني، لأن إسرائيل التي تصلها القذائف الفلسطينية إلى قلبها ومعقلها لن تكون عاقلة في فعلها ضد الفلسطينيين، ومثلما تتعامل معهم بشكل هستيري، فإنها "ستهستر" أكثر. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com