فضحنا الشباب وقصَّروا رقابنا أمام الخلق، وذاع أمر الفضيحة حتى ظن البعض أن المصريين مهوسون بالتحرش بعدما أشيع أن شيمة المصريات الرقص.

وإذا كان لما جرى في ميدان التحرير من فضيلة فهي أن الجريمة التي ارتكبت فيه دقت الأجراس ونبهتنا إلى أن ثمة مشكلة اجتماعية متفاقمة ينبغي أن تحظى بالاهتمام، بعدما تم تجاهلها طويلا.

وكان البيان الذي صدر لأول مرة عن رئيس الجمهورية في هذا الصدد أحد تلك الأجراس التي دعت إلى ضرورة التحرك الجاد للتعامل معها. التحرش وصف مخفف وفضفاض لأن الذي حدث في ميدان التحرير مساء الأحد 8/6 أسوأ بكثير، إذ تجاوز الكلمة والإشارة إلى الفعل والاعتداء المادي الذي كان بمثابة هتك للعرض واستباحة لجسد المرأة، فيما يعد منزلة وسط بين التحرش اللفظي والاغتصاب.

الخبر ليس جديدا، ولكن ملابساته هي التي سلطت الضوء عليه وحولته إلى حدث مدو، ذلك أن وقوعه في مناسبة تنصيب رئيس الجمهورية الجديد، وفي ميدان التحرير حيث قلب العاصمة، ثم المدى الذي ذهب إليه المعتدون في هتك عرض المرأة.

وأهم من ذلك أن مواطنا قام بتصوير ما جرى وبثه على اليوتيوب.

وهو ما صدم الرأي العام وأثار عاصفة الأصداء الغاضبة. إلى جانب أن ضابط شرطة غامر وتدخل لإنقاذ المرأة من الجمع الهائج. هذه الملابسات كلها دفعت بالحدث إلى الواجهة. فهمنا من بيان للداخلية أن تلك لم تكن حادثة فردية يومذاك. ولكن الميدان شهد خمس حالات أخرى (في رواية أخرى أنها سبع)، ولكن واحدة فقط جرى تصويرها وتعميمها.

فهمنا من الباحثين أيضا أن الظاهرة برزت إلى الوجود منذ عام 2011، حين خرجت الجموع بأعداد كبيرة إلى ميدان التحرير الذي ضعف أو انعدم فيه التواجد الأمني، الأمر الذي وفر أجواء مواتية للعديد من الممارسات القبيحة التي من ذلك القبيل.

وقد وثقت ثلاثة من المراكز البحثية المتخصصة (النديم ــ المرأة الجديدة ــ نظرة) شهادات لنماذج من النساء اللاتي تعرضن لذلك العنف الجنسي في الفترة بين عامي 2011 و2013، كما تحدثت مجموعة مكافحة التحرش عن 167 حالة وقعت أثناء خروج الجماهير في 30 يونيو 2013.

الشاهد أننا أمام ظاهرة لها حجمها الذي لا يمكن تجاهله وخطرها الذي يتعذر السكوت عنه. وحجمها ليس معلوما على وجه الدقة، إلا أن دراسة أجراها المركز الديموجرافي التابع لمعهد التخطيط القومي بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين تحدثت عن أن 99.3٪ من النساء المصريات تعرضن للتحرش.

في التفاصيل ذكرت الدراسة التي أعلنت في أبريل الماضي (عام 2013) ما يلي:

إن 88٪ تعرضن للمعاكسات الكلامية.
-75٪ تعرضن للنظرات الفاحصة والنهمة لجسد المرأة.
ــ 70٪ تلقين معاكسات هاتفية.
ــ 63٪ تلقين إشارات محملة بالإيحاءات الجنسية.
ــ 62٪ عانين من التتبع.
ــ 60٪ تعرضن للمس بأجسادهن.
بينت الدراسة أيضا أن الطالبات هن الأكثر تعرضا للتحرش بنسبة 91٪.
ــ يليهن العاملات بنسبة 66٪.
ثم ربات البيوت 47٪
وأخيرا السائحات 30٪.

ومن الخلاصات التي انتهت إليها ان 95٪ من النساء لا يشعرن بالأمان في وسائل المواصلات.
في حين أن 91٪ لا يشعرن بالأمان في الشارع.

ثمة خلفيات لا يستطيع الباحث أن يتجاهلها في تحليل الظاهرة، منها ما يلي:

- إن الأجهزة الأمنية أطلقت بعض السيدات للتحرش بالإناث اللاتي اشتركن في مظاهرة نقابة الصحفيين عام 2005 وشهود هذه الواقعة لا يزالون بيننا، ولديهم ما يقولونه أو يقلنه في هذا الصدد.

- إن المشاركات في المظاهرات أثناء فترة حكم المجلس العسكري تعرضن لإجراءات كشف العذرية في أحد السجون عام 2012.

- إن الإناث اللاتي ألقي القبض عليهن في المظاهرات التي خرجت خلال الأشهر العشرة الأخيرة (بعد يوليو 2013) تعرضن للتحرش في أقسام الشرطة. وهو ما أثبتته المنظمات الحقوقية المستقلة في عدة بيانات أصدرتها.

- إن عمليات التحرش شاعت في المناسبات المختلفة، الأعياد في مقدمتها، وظلت الصحف تسجل مظاهرها في كل مناسبة، ولكن أجهزة السلطة لم تكترث بها.

أغلب الظن لأنها كانت مشغولة بالأمن السياسي الأمر الذي أشاع حالة من الانفلات في البلد، كان استمرار التحرش واستفحاله من بينها.

لا أستطيع أن أحمل السلطة وحدها بكامل المسؤولية عن تفاقم الظاهرة أو التصدي لعلاجها، لكني لا أعفيها من المسؤولية أيضا سواء عن عدم الاكتراث بها والتركيز على ما هو سياسي فقط، أو لتقاعسها في إصدار التشريعات التي تردع كل من يحاول استباحة جسد المرأة (التعديل القانوني الأخير يركز على التحرش فقط ولم يشر إلى الاعتداء الجنسي على النساء).

أسخف ما قرأت في تحليل ما جرى قول من قال إن التحرش من أخلاقيات الذين خرجوا في 30 يونيو، أو من ادعى أن الإخوان وراء الظاهرة.

لكن الإشارات المتكررة إلى أن ما جرى «ممنهج» ويكاد يكون بأسلوب واحد لا ينبغي تجاهله، وانما تثير سؤالا كبيرا ضمن أسئلة أخرى كثيرة. يحتاج إلى جهد خاص من جانب الباحثين الاجتماعيين.

إذ هم الأقدر على رصد جذور المشكلة وتحديد دور المجتمع ومسؤوليته في التعامل معها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com