"مصر يامّةْ يا بهيّةْ
يا أم طرحةْ وجلابيّةْ
الزمن شاب وإنتي شابّةْ
وهو رايح وإنت جايّةْ
جايّةْ فوق الصعب ماشيةْ
فات عليكي ليل وميّةْ
واحتمالك هوَّ هوَّ
وابتسامتك هيَّ هيَّ".

كادت الهزيمة، حزيران 1967، أن تكسر ظهره وظهر جيله، ولكنها لم تتمكن منهما، لأنهما تصديا لها بقصائده، وبصوت الشيخ إمام "الجدع جدع والجبان جبان"، "يعيش أهل بلدي"، "صرخة جيفارا"، "هوشه منه"، "شيّد قصورك"، "عبد الودود المرابط عل الحدود" و"رجعوا التلامذه يا عمّ حمزة" وغيرها الكثير من الأغاني، سياسية واجتماعية، وطنية وقومية وأممية.

سكن "عمّ أحمد" في مجمّع "حوش قدم"، حيث البسطاء وأولاد الحلال الذين أحبهم كثيرا، وكره من يعاديهم أكثر. مجمّع "حوش قدم"، بيت الغلابى البؤساء والفقراء الجائعين والأدباء الصعاليك. فيه تخندق وفضح الصفحات السوداء للهزيمة بين الناس كل الناس، خُصوصا البسطاء والفقراء منهم، بقصائده التي أخرجتهم من حالة الانهيار والضياع، التي كادت أن تُغرق المشاعر الإنسانية الوطنيّة وتدفنها في الذلّ والانهزام. لقد رفع "العمّ أحمد" وغيره من إبناء مصر المخلصين، صوت المقاومة، وأبرزه بكلّ صوره وأشكاله، الإبداعية منها بشكا خاص.

من "حوش قدم" انطلقت القصيدة الشعبية المقاوِمة، خصوصا قصيدة "رجعوا التلامذة يا عمّ حمزة للجدّ تاني"، التي وثّق فيها نهوض صبايا مصر وشبابها من دمار الهزيمة مطالبين النظام بمحو آثارها. ومن "حوش قدم" كتب عن زنازين السجن ومراحله، التي مارس فيها تنقيّة خلاياه من أنفاس الهزيمة وعدوى الرضوخ، والانهزام والتكالب على المال مثل "أولاد الأحذية" حسب قوله. هناك، في "حوش قدم"، تجمهروا من أجل الإنطلاق إلى التحرير والنصر فتحوّل الحيّ مزارا ومركزا للكوادر التي رفضت الهزيمة، وانطلق المناضلون بكثافة تضاهي كثافة الثورات العظمى لهزم الهزيمة من مصر والوطن العربي.

اعتقل "عمّ أحمد" وحُكم عليه بالسجن سبع مرات، وحال خروجه من السجن كان يعود من أين أتى، إلى الثوريين، من أجل استمرارية النضال وتطوره، ولم يفكّر مرة بالتراجع ولا بطأطأة الرأس. محبة "عمّ أحمد" لمصر كانت إستثانية، كأنه يقول لها ما قاله عنترة بن شدّاد العبسي:
أثني عليّ بمــا عَلِمتِ فإنّني سَمْحٌ مُخالفتي إذْ لم أُظلَمِ

وإذا ظُلِمتُ فإن ظُلمي باسلٌ مُرٌّ مذاقتُه كطعـم العـلـقـمِ
سرقت السجون والمعتقلات من عمر "عمّ أحمد" المديد، ثمانية عشرة عاما، توزعت على سبع فترات تواصلت فيها المحاولات لكسره أو تدجينه. ولكنه بقي ثابتا على مواقفه رغم كل البؤس الذي عاشه والمغريات التي عُرضت عليه.
* * * *

تواصل أحمد فؤاد نجم مع فلسطين واعتبرها وطنه الثاني. استمد منها الصمود والثبات على الموقف وحرِص على التقدم إلى الأمام. أحب انتفاضتها وكره نكبتها، عانق فقراءها وقاوم مُستغليها، عانق حلمها واعتبره من أنبل الأحلام.

أحب "عمّ أحمد" الناصرة، هذه المدينة الطيّبة التي عانقت قصائده منذ بداية السبعينات، ولا تزال تنشر عبيرَها في مدارسها ونواديها وبين طلبتها ومثقّفيها. أحبّها وغنّى معها: "أناديكم، أشدّ على أياديكم". توزّعت مشاعره ما بين مصر وفلسطين، وما بين القاهرة والناصرة، وما بين الإسكندرية وحيفا، التي أحبّ "ميرمية" كرملها المعطاء.

مثلما دخلت قصائده بيوت ووجدان الثوريين المصريين والعرب دخلت أيضا بيوتنا ووجداننا نحن الفلسطينيين. فقد أعاد طلبة المدارس والجامعات غناء قصائده في كل مناسبة رغم كل محاولات السلطة منعهم وثنيهم من ترديدها.

* * * *
أحبّ "عمّ أحمد" القدس وتماهى مع سمائها ومعابدها. وتماهى مع رام الله وسحر طبيعتها، ومع نابلس جبل النار وصلابة صوّانه، مع جنين وأسطورة مخيمها، مع أريحا وجداولها، مع بير زيت وطلبتها، وتسامى مع تراتيل بيت لحم وقداسة مهدها. أحبّ فلسطين من بحرها إلى نهرها وأحبّ مقاومتها:
"يا فلسطينيةْ
والبندقاني رماكو
بالصهيونيةْ
تقتل حمامكو فِ حِماكو
يا فلسطينيةْ وأنا بدي أسافر حِداكو"
* * * *

تصدّى "عمّ أحمد" لأسلوب المغنطة الذي استخدمه الأقوياءُ ضد الضعفاءِ. تواصل مع شمس الأرض، نقّى الكلمات من الزوائد، توالج مع التراث الشعبي بأفراحه وأتراحه. قرع جدران الخزّان في زمن الخوف والتراجع. دافع عن ديموقراطية "الدستور" مطالبا بالمساواة للجميع. كره غيبية الوطن وأحب عقلانيته. غربل المواقف بمبدئية واتزان. دافع عن حقّ الشعوب في تقرير مصيرها. دافع عن خيراتها ولقمة عيشها. قاوم الاستعمار وفضح عملائه:
"شرفت يا نيكسون بابا
يا بتاع الووتر جيت
عملولك قيمة وسيما
سلاطين الفول والزيت
فرشولك أوسع سكّةْ
من راس التين على مكّةْ
وهناك تنفذ على عكا
وبيقولوا عليك حجيت.
ما هو مولدْ سايرْ دايرْ
شيلاه يا صحاب البييت"
* * * *
أحب "عمّ أحمد" توأم روحه، "الشيخ إمام" رغم فراقهما. "الشيخ إمام" الذي حمل عودَه وقصائد "عمّ أحمد" إلى الأحياء الشعبية، إلى كل تجمّعات الناس الغلابا والمثقفين الوطنيين، إلى النوادي والجامعات، إلى المظاهرات والمهرجانات الوطنية. هذا الثنائي المتميّز، "عمّ أحمد" و"الشيخ إمام"، عبّر عن روح مصر وروح أمّتها الوثّابة:
"كأنّي فلاح في جيش عرابي
مات عَ الطوابي وراح في بحركْ
كأنّي نسمةْ فوق الروابي
م البحر جايةْ تعرف بسحركْ
كأنّي كلمةْ في عقل "بيرم"
كأنّي غنوةْ في قلب "سيّد"
كأنّي جوّا المظاهرةْ طالبْ
هتف باسمك وماتْ معيّد."

الناصرة
كانون ثاني 2004
*القيت في ذكرى الاربعين للشاعر احمد فؤاد نجم الذي اقيم في مركز محمود درويش الثقافي في الناصرة يوم السبت 1.2.2014

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com