على خلفية الأحداث المتسارعة في الشأن النصراوي, وما تلاه من جدال وخلاف في حول نتائج الانتخابات, والإشكاليات المحتملة لاحقا المترتبة على هذا الخلاف رأيت من الصواب هذا الأسبوع التطرق إلى هذا الموضوع وحيثياته باقتضاب.

إن المتأمل للمشهد في الناصرة في الآونة الأخيرة، حتى دون الإطلاع على حيثيات الخلاف أو تفاصيله أو أطرافه يصل إلى انطباع بان الذين يقومون على حل هذا الخلاف قد أصبحوا شيئا فشيئا جزءا من هذا الخلاف. بل تحول من خلاف عادي في إدارة البلدية إلى نزاع قطري يهدد بانتشار أثره السلبي إلى بلدان أخرى هي في غنى عنه. كان لزاما على جميع الأطراف العمل على احتواء الموضوع في مهده وعدم السماح له بتخطي حدود الناصرة وأهلها.

علينا التسليم بأن هناك نتائج واضحة للانتخابات وهي التعادل بين الفريقين. والخلاف بمجمله منذ البداية إنما يدور حول عدد قليل من الأصوات ليس إلا, لصالح هذا الطرف أو ذاك. لا توجد أكثرية واضحة بمئات أو ألاف الأصوات وإلا لما ظهر الخلاف وتطور إلى ما نحن عليه ألان. أدى التعادل إلى أن إمكانية فوز الطرفين هو أمر وارد, لذلك لاحظنا استماتة كل طرف في ترجيح كفة الأصوات لصالحه. وبما أن التوافق منذ البداية لم يكن سيد الموقف, فانه لم يكن مفاجئا أن يتفاقم الخلاف إلى مستويات غير مسبوقة في الناصرة والوسط العربي. وفي رأيي وقع الإخوة في مطبات عدة قد يصعب تداركها لاحقا.

أولا، التدخل من خارج الناصرة لنصرة احد الطرفين بحجة أن الناصرة شأن يهم الجميع وليس أهل الناصرة وحدهم. ولكن كان عليهم أن يفطنوا بأن تدخلهم جاء على الأغلب لدعم طرف دون الآخر، أو إثبات تواجده، مما قد ينقل النزاع من مجرد خلاف على صندوق انتخابات إلى صراع واسع ينتقل إلى أهالي الناصرة ومن ثم الى أهالي البلدان العربية الأخرى.

ثانيا، كان الوصول بالقضية إلى أروقة المحاكم خطا احمر، لا يجوز الاحتكام إليها. لماذا؟ ليس لان المحاكم غير قادرة أو مشبوهة، ولكن لأن المحاكم غير صالحة بتاتا كعنوان لحل مثل هذه القضايا. وأقول كحقوقي، بأن المحاكم في العالم وجدت لفض النزاعات القائمة أو السابقة، دون الأخذ بالحسبان مصالح أطراف النزاع في المستقبل. لذلك استحدثت الهيئات القضائية في البلاد وفي العالم لهذا السببً ما يسمى بحل "التوافق" أو بالعبرية ״גישור״. لأنه يأخذ بالحسبان حساسيات كثيرة والتعايش المستقبلي بين الناس بدل الاحتكام إلى القوانين الجافة.

ثالثا، لم يتوقف التراشق الإعلامي بين الطرفين في الإعلام منذ بدأ النزاع. وكان المشترك بين جميع المتكلمين أمران: الأول, أنه على حق ويستحق رئاسة البلدية دون منازع. أما الثاني, فانه لن يسمح أبدا بالانحدار نحو الفتنة. مع ذلك ما جرى وما يجري في الوسط العربي لا يتوافق مع ما يقال، بل العكس من ذلك. تقول الحكمة "لا يمكن أكل جزء من الكعكة وإبقائها كاملة". وكل حريص على مصلحة الناصرة، كان عليه أن يكون مستعدا لدفع ثمنا لذلك ومبادرا, وليس للدعاية فقط. وعدم الاحتكام إلى المحاكم والوزارات بحجة الوصول إلى الحقيقة. لأن مصلحة الناصرة والسلم الأهلي أهم من عدد الأصوات "المقدسة" والمختلف عليها.

رابعا, أما في التفاصيل, إذ تظهر نتائج الانتخابات تعادل الفريقين إلى حد بعيد. ولسنا هنا بصدد عدة أصوات اقل أو أكثر عند هذا أو ذاك. ما الذي كان يمنع أن يجلس الطرفان ويقررا إدارة البلدية معا مثلما عملوا سابقا سنوات طويلة؟ هذا تساؤل أخلاقي لكل من تدخل بالقضية وأصبح طرفا فيها وجزءا من المشكلة. إن حصول الجبهة في الناصرة على تعادل في الانتخابات أمام منافس جديد أيا كان, ومهما كانت تكتيكاته, هو تراجع في شعبية الجبهة, وهذا ليس عيبا, وهذه حال الأحزاب والبلديات في العالم كله. إضافة إلى ذلك, نجحت الجبهة عشرات السنين وخدمت أهل الناصرة على أحسن وجه. ما المانع إن تكون فرصة لوجوه جديدة أو حتى نفس الوجوه بعناوين جديدة في تولي مسئولية الإدارة؟! ولا اخص الجبهة بنقدي هذا إلا لأنها تعتبر حركة شعبية وقومية منذ عشرات السنين, ولها رصيد شعبي يحسب له ألف حساب. لذلك كنا نتوقع منها بالذات أن تبدي المرونة وبعض "التنازل" في شأن الناصرة, مما قد يعود عليها بالاحترام والتشريف في الأوساط العربية الأخرى ويرفع من شعبيتها أكثر وأكثر.

خامسا, إن المشهد النصراوي بغض النظر عن تفاصيل الإشكال ونوعه او الأحزاب والجهات المنشغلة به, يدل على أن القيادة العربية الحالية بمجملها كما يبدو لا تصلح لحل مشاكل المجتمع العربي فضلا عن تمثيله. ويمكن اعتبار الإشكال في الناصرة اختبارا لهذه القيادة. إن الشباب "الطائش" أيها السادة يرتكب الحماقات, ولكنه لا يتصرف من فراغ, بل أوجدتم له فرصة ذهبية ليطيش فيها. إن كل ما قد يتطور من عنف كلامي أو جسدي, انتم القيادة تتحملون على الأقل جزءا من المسئولة عنه أخلاقيا وحتى قانونيا. ولو اخترت عنوانا آخر للمقالة لكان: "أليس بينكم رجل رشيد؟!".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com