طفلة في الثامنة من العمر تجلس على كرسي الاعتراف في أحد أديرة بلجيكيا عام 1975، هذا كان المشهد الأول في فيلم "كيس طحين" للمخرجة المغربية خديجة لوكلير، الذي عرض أول أمس مساء في معهد العالم العربي بباريس، الفيلم الذي أدت فيه دور البطولة الممثلة المغربية الشابة رانيا ملولي "سارة" برفقة الممثلة الفلسطينية القديرة هيام عباس في دور "عمة سارة"، محاولة للذاكرة المنفتحة على تجارب عديدة أن تؤرخ هذه السيرة الذاتية وتوحدها مع الأمكنة، سيرة ذاتية تحاول أن تتعرف على الناس مثلما هم.

قصة الطفلة سارة

سارة الطفلة التي كان يراودها حلم رؤية والديها الذين هجروها في الدير منذ سنوات، سرعان ما يتحقق حلمها حينما تستدعيها إدارة الدير إلى مكتب المسؤولة، هناك ترى رجلاً يعرف عليه من قبل الإدارة أنه والدها وجاء لكي يخأذها لتقضي عطلة نهاية الأسبوع في باريس، الحلم سرعان ما يتحول إلى كابوس حينما تجد الطفلة نفسها في إحدى قرى المغرب النائية وسط عائلة لا تعرفها ولا تنتهي الجرعات التراجيدية المفتوحة حينما تبدأ التوالي عقب بعضها، والتي لم تنته بالتعرف إلى أمها المصابة بنوبة جنون، يذهب الوالد ويترك الطفلة وحيدة بلا أدنى مقومات الحياة الملحة، الطفلة تواجه هذه الجرعات من التراجيديا بشكل يميط اللثام عن طفلة قوية تلقت تعليمًا جيدًا في موطنها الأم "بلجيكيا" هنا يحذوها التحدي أن تواجه كل المشكلات من أجل العودة إلى بلجيكيا، تشتغل وتعين أسرة عمتها التي احتضنتها من خلال جلب أكياس الطحين التي تدفع ثمنها من خلال اشتغالها بحياكة الصوف، وتتعرف على بيئة المغرب المجتمعية خلال حقبة الثمانينات من القرن المنصرم، مثلما تعرفت على بيئة المغرب تعرفت على جسدها واحتياجاته وسط مشاعر من الكبت والحرمان.

الفيلم الروائي الأول لوكلير

إذاً الفيلم الروائي الأول للوكلير في"كيس طحين"- بعد تجربة عدة أفلام قصيرة وأخرى في تقنيات الإنتاج لأكثر من مئة فيلم وتجربة تمثيل بدت ملامحها من خلال لغة الإخراج البصري العالية التي قدمتها لوكلير- تعالج موضوعات هجرة الأسر لأبنائها والهجرة العكسية إلى أوروبا، إنها تجربة سينمائية مغربية جديدة تحاول أن ترصد الفرح والحزن والانكسار والصمود والحب والكره في قراءة المجتمع المغربي التي اضطرت لوكلير للاشتباك معها خلال تصوير الفيلم ذب سمة السيرة الذاتية أكثر من كونه يقارب حقبة الثمانينات من القرن المنصرم في المغرب، ولكن فض الاشتباك غير ممكن في تداخل المجتمعي والسياسي، حيث نجحت في تقديم مقاربة مجتمعية عامة من خلال تجربة واعية ومخلصة تكتسيها خبرة ومقدرة على تقديم قراءة بصرية مميزة، وما وجه للفيلم من نقد بما يخص تغرب التجربة عن المجتمع المغربي لا يتعدى كونه شيئا من الموروث العربي الرث عن طهارة المدن العربية في العقل الشعبوي الجمعي.

ما يميّز التجربة السينمائية هذه بأنها تقدّم ملامح الواقع عبر لغة بصرية تحاكي الواقع

ما يميز هذه التجربة التي تعتبر في سياق التجربة السينمائية المغاربية الجديدة بشكل عام، قدرة السينما على تقديم ملامح الواقع عبر لغة بصرية تحاكي الواقع ضمن وقائعه، انه تمرد تعيشه السينما ويتجسد واقعاً حسياً عبر قراءة لكل الممنوعات، قراءة لا ينقص واقعيتها من ملامح جودتها البصرية، إنه واقع عايشته لوكلير لمدة عامين من العيش في المغرب، عامين حاولت مثلما صرحت للإعلام أن تخفف من ثقلهما إيجابياً، إنها دعوة لمعالجة كل الممنوعات التي تعترض البنى المجتمعية في طريق نموها النموذجي، إنها تعرية للواقع تحت الشمس.

روعة البداية والنهاية

لا تقل روعة مشهد البداية في "كيس طحين" عن روعة لقطة النهاية، مثلما كانت البداية ومضة خاطفة ومدهشة وتخبئ ورائها البدايات المفتوحة غير المنجزة، كانت لقطة النهاية كذلك، حيث ركبت السيارة التي سوف تقلها إلى المطار وسط تلصص منكسر من عيني عشيقها، إنه فيلم ينتمي للحياة بكل تفاصيله.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com