لم تعش الأمة في تاريخها فوضى و إختلاطا في المفاهيم مثلما تعيشه الآن. و ضاعت البوصلة التي كانت تحدد الوجهة في الرياح السيئة. بسبب غياب مشروع ''نهضوي'' واضح تلتف حوله الجماهير العربية و تبني من خلاله أمالها و تحمّله أحلامها. خاصة منذ تراجع المشروع الوحدوي بغياب جمال عبد الناصر و الذي كان يجمع حوله العرب بمختلف تنوعاتهم العرقية و القبلية و الدينية ...فتلاشت روابطهم المتخلّفة و تركت مكانها لرابطة أكبر و أشمل. و عمل الإستعمار و الصهيونية و أدواتهم الإقليمية على ''إجتثاث'' ما رسب في المخيّلة المشتركة. فأنفقت ملايين الدولارات على صحفيين و كتاب و نظّمت أعظم حملة تشويه في التاريخ ضد شخص بعد وفاته. و لم يكن المقصود عبد الناصر و إنما ''الناصرية''.

غير أن الفرصة الأكبر لقتل التجربة كانت الثورة الإيرانية. و قد يبدو الأمر غريبا خاصة أن الخميني رفع شعار ''الشيطان الأكبر'' في وجه الولايات المتحدة الأمريكية. لا غرابة في ذلك. فقد كانت شعارات الثورة مغرية خاصة في جانبها المعادي للنفوذ الأجنبي. و الداعي الى نظام إسلامي في الحكم. و كان الإعتقاد عند فئات واسعة من الشعب العربي أن الفراغ الذي تركه جمال عبد الناصر يمكن أن يملأه أية الله. و مثّل إنتصار الثورة الإيرانية نموذجا ملهما لجماعات الإسلام السياسي في الوطن العربي التي تصاعد تأثيرها و توسع. و بدأت تطرح نفسها بديلا حقيقيا. و كان لذلك تأثيرات واضحة لا تخفى على أحد إقليميا و حتى دوليا. فقد تصاعدت تدريجيا في منتصف الثمانينات قوة ''الأفغان العرب''. و بدأت حركات المقاومة المسلحة التقدمية في لبنان تتراجع لتترك مكانها لحزب الله و حركة حماس و الجهاد الإسلامي. و سطع نجم حركة الإتجاه الإسلامي في تونس و كانت قريبة من السلطة ...

هذا الصعود الصاروخي لتنظيمات الإسلام السياسي و خاصة للدور الإيراني بعد توجه الحكام الجدد هناك الى تصدير الثورة جعل الشارع العربي ينقسم بين مؤيد و رافض للدور الإيراني. فهناك من إعتبرها فرصة لعودة حلم دولة الخلافة الممتدة و القوية. و هناك من إعتبره حكما فارسيا صرفا و إن تغطى بعباءة الدين. و أنه لن تلبث إيران طويلا حتى تكشر عن أطماعها التاريخية في الخليج العربي و في الضفة الغربية منه تحديدا. و كان أول من دق ناقوس هذا الخطر النظام العراقي بقيادة الشهيد صدام حسين رحمه الله. سانده في ذلك أغلب دول الخليج خاصة السعودية لإعتبارات مذهبية كان يخشى آل سعود أن تعصف بحكمهم. و ما زاد في إلتباس الأمور على المواطن العربي المواقف الإيرانية المساندة للقضايا العربية و خاصة للمقاومة في لبنان و فلسطين و للنظام الممانع في سوريا و التي تجاوزت حدود الدعم السياسي الى الدعم المالي و العسكري.

و ينبغي التأكيد أن الحكم على أي ثورة أو تجربة أو نظام لا يكون بما يرفعه من شعارات و إنما بما يقدمه من مواقف و أداء في الواقع. و النظام الإيراني الذي رفع شعار الإسلام و سعى الى جمع المسلمين في العالم و توحيدهم تحت رايته يضطهد ملايين السنة في إيران و لا يسمح لهم حتى ببناء المساجد و طهران التي يقطنها أكثر من 20 مليون شخص بها مسجد واحد للسنة. و حرّم عليهم الإنضمام للجيش و الحرس الثوري و الأجهزة الأمنية. و هذا ليس قولا طائفيا و إنما تفنيدا لإدعاء رفع راية الإسلام التي إدّعاها ''الملاّلي'' خاصة و أن الموقف لم يكن له ما يبرره بإعتبار المساندة المطلقة التي أبداها الكثير من السنة العرب للثورة الإيرانية. كما أن ساكني الأهواز منعوا من تسمية أبنائهم بالأسماء العربية و يعاملون بمنتهى القسوة و التمييز رغم أن غالبيتهم من الشيعة. و الخليج العربي هو الخليج الفارسي في كتبهم و مناهجهم. و واصل الأمر الى حد مقاطعة أحدى دورات ألعاب الخليج التي دعيت لها إيران لأن مطوية الدورة كانت تحمل إسم الخليج العربي.

و عندما قررت الولايات المتحدة التدخل في المنطقة تمهيدا '' للشرق الأوسط الجديد'' كانت إيران في طليعة القوى الداعمة للعدوان على أفغانستان و العراق. حتى أن رفسنجاني صرح علنا بأنه لولا إيران ما استطاعت أمريكا و قوات التحالف أن تحتل أفغانستان، و تدخل كابول بهذه السهولة. و بعد إحتلال بغداد كان وزير الخارجية الإيراني أول الواصلين للتهنئة.

كل ماتقدم و غيره مما لا يسمح المجال بذكره يبيّن أن الثورة الإيرانية كانت ثورة الإيرانيين و أن حكام إيران كانوا يدافعون عن مصالح الأمة الفارسية. و لا علاقة لذلك لا بالإسلام و لا بدولة الخلافة كما روّجت آلة الدعاية في البداية.

فهل يعني ذلك أن بعض الأنظمة العربية التي تحرض على إيران على حق. و أنها أدركت حقيقة مخططات النظام الإيراني قبل غيرها ؟.
الإجابة لا. فالموقف الرسمي العربي من إيران تحكمه حسابات سياسية معقدة سأكتفي بالإشارة الى إثنين منها :

- موقف دول الخليج و تتزعمه السعودية و تحركه أساسا رؤية طائفية صرفة ترى في المد الشيعي خطرا يمكن أن يهدد البناء المجتمعي لهذه الدول و بالتالي وجود هذه الدول أصلا. هذا من جهة. و من جهة أخرى فإن تصاعد النفوذ الإيراني يمكن أن يسلب السعودية موقعها داخل العالم الإسلامي كدولة متصدّرة داعمة و حتى ''حامية'' في بعض الأحيان لهذه الدول.

- موقف مصر (قبل الثورة لأن المواقف الآن غير واضحة ) و بعض الدول الإقليمية الأخرى و التي ترى في الدعم الإيراني للمقاومة في لبنان و فلسطين المحتلة إطالة لأمد الصراع العربي _الصهيوني و إحياء له و إفشال لكل محاولات البحث عن حل سياسي عبر التفاوض ينهي القضية الفلسطينية. و ينهي بالتالي ''وجع الرأس '' الذي تسببه المطالبات الشعبية الدائمة و المتكررة مع كل مجزرة أو إنتفاضة في الأرض المحتلة بضرورة التصدي بالقوة للصهاينة و دحرهم عن أرض فلسطين. فيقع الحكام بين مطرقة شعوبهم و سندان القوى الغربية الداعمة لبقائهم في الحكم

قد يقول القارئ :''حيّرتنا يا رجل. فلا إيران تدافع عن الإسلام فنساندها. و لا الحكام العرب على حق في دعوات مواجهتها الآن فنأخذ موقفهم ؟؟؟''.

الحقيقة أن الكثير من العرب يتعامل مع السياسة الدولية بمنطق '' الأبيض و الأسود ''. الصح و الخطأ. و هذا غير سليم في عالم تتداخل فيه المصالح و تتغيّر فيه المواقف و التحالفات بإستمرار و بسرعة قياسية. و علينا أن نتعلم كيف نكون ''براغماتيين ''. و نحوّل تكالب الأمم علينا الى عامل قوة نحسن إستعماله. فنحدد متى تبدأ تحالفتنا مع هذه الجهة و متى تنتهي مع تلك. شعارنا ما قاله تشرشل منذ أربعينيات القرن الماضي '' ليس لبريطانيا أعداء و ليس لها أصدقاء. لبريطانيا مصالح ''. بهذا المنطق نقيس موقفنا من إيران و من الولايات المتحدة و من الصين و روسيا ... و به نرتب أعدائنا. فنؤجل الآجل و نواجه العدو الداهم. و هو نفس المنطق الذي إستعمله الساسة في إيران فرسموا شبكة علاقات واسعة في وطننا العربي في لبنان و فلسطين و سوريا و في نفس الوقت يحتلون جزرا في الخليج العربي و يدعمون مليشيات القتل في العراق.

بهذا المنطق تكون الصهيونية و الإستعمار الخطر الداهم الذي علينا مواجهته و لو بالإلتقاء مع الخطر المؤجل مرحليا. بشرط أن لا ننسى للحظة أنه كذلك. أما رافعي الأعلام الإيرانية في الوطن العربي إيمانا مطلقا فنقول '' أن الفارسية في العقل العربي'' لا تقل خطورة عن الصهيونية فيه.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com