منذ بداية المفاوضات، أي منذ القرن الماضي، صرنا بحاجة الى البحث في " جوجل". لمعرفة كم مرة قدم الوفد الفلسطيني استقالته، وكم مرة هدد بها. الا اننا لسنا بحاجة الى الموسوعة المعلوماتية لنعرف كم مرة تمت الاستقالة فعلا، وكم مرة نُفذ التهديد، لأن الجواب ببساطة..... ولا مرة.

لا اقصد ان الاستقالة لم تكن يوما جدية، او ان التهديد بها كذلك، بل ما اقصده بالضبط، هو ان المعادلة التي يتشكل بمقتضاها الوفد الفلسطيني، تقوم على اساس مزدوج، فدائما عندنا وفدان، واحد يتم تصديره للواجهة، فيتحدث في الاعلام اكثر بكثير مما يتحدث على مائدة المفاوضات، ويصدر مواقف علنية غاية في التشدد، دون ان يعلم انه وهو يفعل ذلك يؤدي وظيفة لا علاقة لها بالتفاوض والمفاوضات، بل انها الاقرب الى تشكيل طبقة سميكة من الضباب تغطي المفاوض الحقيقي الذي يعمل في قناة خلفية تحت جنح الظلام.

حدث ذلك حين كان لنا وفدان، العلني برئاسة المفغور له حيدر عبد الشافي، وكان من ضمنه الدكتور صائب عريقات وكثيرون ممن كانوا يحرسون الثوابت ويتحدثون في الاعلام، وهم يطوقون اعناقهم بالكوفيات المرقطة، تعبيرا عن الالتزام بما تعنيه كوفية عرفات.

ووفد اخر يُجري في ذات الوقت محادثات سرية تمكن اخيرا من الوصول الى ما يعرف حتى الان باتفاق اوسلو.

كان بديهيا ان يغضب رئيس واعضاء الوفد العلني، وان يقدموا استقالاتهم ، اذ لم يعد لهم لزوم بعد كل ما حدث، فضلا عما اعتبروه تجاوزا لدورهم ، مع ان عراب"العلني"هو عراب "السري"في ذات الوقت، ومن واجب أي قائد سياسي ان يسعى لتمرير الاتفاق الذي يتوصل اليه مع حديث كثيف عن المعوقات، والتقيد بالثوابت.

لا يعيب أي سياسي فلسطيني ، ان تسند له قيادته وظيفة كالتي اسندت للوفد العلني زمن مدريد وواشنطن، وهو تفاوض غالبا لا يفضي الى نتيجة. كما لا نعيب على المفاوض السري ان يتوصل الى نتيجة حتى لو لم تكن مرضية للجميع، فالاثنان العلني والسري، يؤديان ادوارا مرسومة من قيادة سياسية، هي من يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج.

في المرة الاخيرة التي قدم فيها الوفد الفلسطيني المفاوض استقالته، او جرى الحديث المكثف عنها ، حتى ان السيد كيري شعر بقلق كبير جراء هذا الحديث.

لم تكن استقالة الوفد مقنعة للمراقبين الذين هم الشعب الفلسطيني كله، وذلك لسببين، الاول... ان المستقيلين لم يقدموا معلومات كافية عن سبب استقالتهم ، مما اخضع الحكاية للقيل والقال، فتبدد ايقاعها، ولم تحقق أي غرض من المناورة بها.

السبب الثاني... ان من استقال اكثر من مرة وعاد الى نفس الموقع، لا يكون بعيدا عن احتمال ان يعود عن الاستقالة بعد ساعة او يوم او اسبوع.

غير ان وفدنا المفاوض خصوصا وانه علني اكثر من اللزوم ويؤدي مفاوضات سرية (!) في الوقت ذاته، لابد وان يعاني من احتمال وجود قنوات اخرى لايعلم بها، ويعاني كذلك من اضطراره في وقت ما الى التشدد ثم اضطراره الى العكس، ويعاني كذلك من سماع مطولات اسرائيلية استفزازية خلاصاتها لنأخذ كل شيء وليس لكم أي شيء، ويعاني كذلك من تحقير العديد من رموز القيادة لمجرد مواصلة التفاوض، ويعاني كذلك وكذلك وكذلك من اتهام شعبي يتساقط على رأسه مطرا حارقا، كلما اعلن الاسرائيليون عن بناء حي في منطقة ما ، او مصادرة ارض في منطقة اخرى ـ او كلما سقط شهيد او اعتقل عدد موازٍ لعدد اللذين افرج عنهم، او كلما حصلت السلطة على مبلغ من المال حيث تطول الالسنة لتتهم الوفد بانه باق على المائدة اكراما للدعم وليس لامر اخر.

حين يقع كل هذا على رأس المفاوضين دفعة واحدة ، بالجملة او بالتقسيط، فانهم يتأثرون حتما كبشر، ومطلوب منهم ان لا يتأثروا كسياسيين.

وهذه معضلة ولن نحقق شيئا ما دامت بلا حل، وما دام المفاوض في نظر الجمهور هو شريك المغرم واحيانا غطاءه ان لم يكن صانعه ، اما المغنم فلا احد يمتلك ادعاءه لأنه ببساطة غير موجود.

انني اتعاطف مع وضع وفدنا ، الا انني لا اتعاطف لا مع تهديده بالاستقالة، ولا مع التعامل مع نفسه كصانع سياسة ومتخذ قرار، فصانع السياسة ومتخذ القرار لا يجلس على طاولة محادثات سرية او علنية، الا انه يملك تحديد من هو السري ومن هو العلني، ومتى يقبل الخلاصات ومتى يرفضها.

ان تعامل المفاوض مع نفسه ومع المفاوضات بمنطق الزعيم الذي يحرص اولا على صورته و يتجنب كل ما يظنه يجرح وطنيته والتزامه سوف يؤدي الى خسارة كل شيء ... خسارة المصداقية وخسارة الصورة وخسارة المفاوضات .

الناس سيحبون ويحترمون من يحقق لهم اهدافهم او من يقنعهم بانه في السبيل الى تحقيق هذه الاهداف، اما غير ذلك فلن يسمع المفاوض الا صدى صوته، سواء في البيت او الشارع او شاشات التلفزيون مع صخب يملأ المدى تنديدا بالمفاوضات وادانة للاستمرار فيها.

انني انصح بعدم الحديث مجددا عن استقالات او استنكافات ، ذلك ان حديثا كهذا يثير بلبلة دون ان يحقق نتيجة على أي مستوى.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com