الشعب الفلسطيني ليس بحاجة لأي تقرير يثبت ضلوع إسرائيل باغتيال عرفات، ووظيفة التقرير بالنسبة لنا تأكيد قناعاتنا الجمعية، ومجرد دليل علمي على الجريمة كمقدمة لما بعده، فلدينا دليلنا الخاص الذي نستند إليه في توجيه اتهامنا، نوجهه بثبات نحو من اعتاد العبثَ بخرائط حياتنا، نحن الشعب الذي يمكنه الاعتماد على حدسه الفطري، يمكنه تعريف القتل أكثر مما يعترف بالموت.

قرارات القتل الإسرائيلي معلَنةٌ على رأس كل حاجز، وقرار حق القتل مشروع لجند الاحتلال المصفحين لدى أدنى إحساس أو شعور بالخطر، وإجازات القتل مفتوحة على مداياتها لأي اشتباه أو تهديد.. ومن ضمن رصد استشعار التهديد، يجاز ببساطة لهم قتل الأجنة في بطون الأمهات، لشبهة مستعارة من الجينات المتوارثة عن الآباء والأجداد..

وجّه الاحتلال إلى "ياسر عرفات" تهماً متنوعة، وكل تهمة بنظرهم استحق عليها التصفية والاقتلاع.. فهو متهم بلبسه الدائم للبذلة العسكرية، وضُبط متلبساً بارتدائها في أكثر من مناسبة مدنية وعسكرية، والبذلة العسكرية بنظر قوانينهم: إعلان دائم للحرب.

"ياسر عرفات" متهم برفعه "لا" كبيرة بوجه مسوّدات "كامب ديفيد"، ومتهم بازدراء أوراقها ومناوراتها، ومتهم بكسر ضلوع السلام والأمن.

"ياسر عرفات" متهم بتأليف لازمة نشيد الحصار والاجتياح، "على القدس رايحين شهداء بالملايين" ومتهم بقيادة الحشود محرضا على التمرد، وله أرشيف موثق يتحدث فيه عن شعب الجبابرة وعن الجبال الوطنية الراسخة وعن الرياح الرحيمة.

"ياسر عرفات"، متهم بخروجه من بين ركام الدمار مرتفع المعنويات رافعاً أصابعه بإشارة النصر..ومتهم برمزيته ومراوغته الموت الطبيعي والتَفلّت من استحقاق الانكسارات والهزائم، ومن الاتهامات الموجهة له، امتلاك القدرة على الالتفاف على المنعطفات، ودأبه الدائم على مخالفة التيار.

أبو عمار، متخذ بحقه قرار التصفية قبل زمن الموت بصفحات أو أكثر، قرار موته جرى توقيعه منذ الرصاصة الأولى والحجر الأول، وفي تنفيذ القرار تم إرسال القنابل الفراغية، وطورد في الزمان والمكان، وتم تعقبه بالدبابات والبلدوزرات المكلفة نتش حاضنته الحجرية حجراً وراء حجر. لكن عرفات لديه استراتيجيته الخاصة وتكتيكاته المتحولة، ولديه كذلك خططه المنظورة وبعيدة المدى، ويمتلك قدرة هائلة على توظيف موارده المتعددة الوجوه والاحتمالات. لقد آثر رجل المفاجآت ترحيل بعض من مهامه وتنحيتها جانباً إلى مرحلة أخرى، منطلقاً من بعد نظره للحظة المناسبة التي يستجمع فيها مجدداً المفاتيح والأقفال، ليعيد الكرّة واتخاذ وضعه القتالي..

"أبو عمار" بعد أن فحص بدقة المعادلة، قرر أن يستكمل مهامه بعد الغياب، حيث أجل بعضها بوعي مسبق إذ لم يسعفه اعتراضه بالسم، إنجاز بعض خططه الإضافية، وعياً منه أنه سيؤديها بجدارة واقتدار من فضاء لحده بحرية الغائب.

لقد رسم خطة مواصلة مهامه في غيابه، متأكداً أن عظامه ورفاته سيكشفان النقاب عن مسرحية جريمة العصر ومواصفاتها سيئة الحبكة والأداء والإخراج.

الرئيس يدق جدران لحده، يخرجُ مشهراً عظامه وتقاريره بالنيابة عن جميع ضحايا الاغتيال والغياب القسري، سيعود "عرفات" بطلا وزعيما في ذاكرة الماضي ورؤية المستقبل، فالرجل لا يؤرقه الخط الفاصل بين الحياة والموت، فهو يمتلك القدرة على التموضع في حالات الحضور والغياب، وسينزع مجددا طمأنينتهم في موته، كما فعل في حياته.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com