في نهاية القرن الماضي، زار وزيرٌ بريطانيّ جنوب أفريقيا، وقدّمته السُّلطاتُ المحليّة هناك الى رجال من قبيلة البوشمن. كان الوزير قد علم أن نظام الحساب في هذه القبيلة ما زال بدائيّاً. فسأل عجوزاً من رجال القبيلة عن عُمره، من باب التّسلية الذاتيّة، فأجاب العجوز: "أنا أكبر من أكثر خيبات أملي مرارةً، وأصغر من أكثر ذكرياتي بهجةً".

حضور الذّات هو السّمة الأبرز في سؤال الوزبر المُنتمي الى "حضارة" رفيعة ومنصب سامي فيها. حضور الذّات، لكن ليس بمعنى المقابلة التقليديّة بين الذات والموضوع، بل بمعنى المقابلة بين الذات والإسطوانة المُنتَجة صِناعيّاً. فالوزير هنا لم يتوقّع أن يتلقّى جواباً يجد فيه ما هو مشترك بين حضارة يفترض عقلُه أنها لا تتقاطع مع بدائيّة الآخر.

قد يُعبّر "غرور" الوزير عن ميل شائع منبعه حيث يرى كلّ فرد فينا أن خصوصيّته ليست في مساواته مع الآخرين، بل في اختلافاته عنهم. ويتكشّف من هذا الخطاب النموذج أن الناس يتكلمون بغية استغلال بعضهم لبعض أكثر مما يتكلمون للتعبير عن الإعتراف ببعضهم البعض.
فمن حيث المُمكن: جميعنا قَتَلة.

طالما طرحت الفلسفة السياسيّة السؤال التاريخي المعروف: من كان في البدء، الحرب أو السلام؟

ويذهب الكثير من المحللين والعلماء الى أن حالة الحرب، بوصفها الحالة البدئيّة الدائمة التي حكمت علاقات الجماعات البشريّة، قد تعيّن عليها إيجاد بعض المبادئ التّوافقيّة تجنباً للأفول الكامل والإنزلاق الى حالة مستديمة من التّدمير الذاتي، أو إخضاع حريّتهم لجهةٍ ثالثة، كما تحدّث الفيلسوف هوبز في كتابه الليفياتان (Le Leviathan)، والذي يوضّح فيه آليات تخلي الأطراف المتنازعة عن سلطاتها لصالح الدولة أو طرف ثالث قادر أن يفرض عليهم إرادته فرضاً.

إن عُدوانية الإنسان لا تخضع، كما يبدو، لأي ضوابط غريزيّة يُمكن أن يوضع لها حدّ؛ فالذئابُ لا تقتل الذئاب، ووحدُه الإنسان يفعل ذلك مع أبناء جنسه. لكن، ومن جهة ثانية، فإن نزعات العُدوان والتنازع لا تخضع، كما هو حال الدّيوك، الى دورة غريزيّة بيولوجيّة، فالإنسان ليس مرتبطاً مباشرةً بالطبيعة؛ إنه يسعى الى امتلاك ما يرغبه الآخرون، أكان ذلك بئر ماء أو بئر نفط. والسؤال، هل هناك من شيء تتنازع عليه الجماعات الإنسانيّة يستحقّ عدم تدميره وتدمير الآخر المتنافس على الشيء ذاته؟

حالة الإستقطاب والنّفير التي تعيشها مدينة الناصرة، حالةٌ غير طارئة على النّهج البشريّ القطيعيّ، وهي الأساس الجذري والأقوى لترسيخ دور الجهة الثالثة وتكريس طُغيانها على حساب الإرادة الذاتيّة (الوطنيّة). هذه العُدوانيّة، وهي وليدة نهج متراكم من الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها إدارة واحدة ووحيدة منذ عشرات السنين، تولّدُ تدنيساً مستمرّاً من الخطورة، هي ذاتها التي عرفها الإنسان في عمليّة تدنيس المعابد. هذا يولّد ما هو أخطر من ذلك أيضاً، واستناداً الى روبرت باركر، فإنه يولّد صَدعاً في القُدرة على التمييز بين الناس وبين (الآلهة) أو الدّولة (إسرائيل في هذه الحالة). وهذا يُحيلنا الى تحليل سيجموند فرويد الإدراكي لطقوس التطهُّر بعد المعارك، وقبل عودة المتعاركين القتلة الى منازلهم وقراهم. هذا ليس قانوناً اجتماعياً طالما يُبيح (المُجتمع) قتل الآخر (العدو)، فالقانون، كما نفترض، هو ما يُلزمنا بإفساح المجال الى الكلام والى خطاب العقل، قبل إطلاق العنان للعنف الذي قد لا يعرف له حدود.

قانون الكلام، أو ما يستتبعه أو يستبدله من أفق توافقيّ، هو ليس بالضرورة وليد الكلام نفسه، فنحن، كما في المجتمعات البدائيّة الطّقوسيّة، نتصرّف وكأننا نعرف القاعدة التي تقول "لا تقتل" قبل أن ينطق بها فمُ إله أو سُلطة ثالثة لا تسمح بأي مقايضة معنا نحن البشر!

اللجوء الى الإحتكام الى هذه السّلطة الثالثة (القضاء الإسرائيليّ) لا يُشير الى ضعف ووهن الجهة المشتكية فحسب، بل يُشير الى تفريطها المنهجي بسيادة الإرادة الذاتيّة الوطنيّة لصالح تكريس سُلطة الدّولة. هذه العلاقة، هي أخطر ما علينا الإنتباه إليه في هذا الشأن.

إن مسألة "خرق حظر العُنف" تثير الشّعور بالندم والخطيئة حتى في مجتمعات لم يجري فيها بعد صياغةً ما لهذا الحظر. وبكلمات أخرى، هذا الحظر ليس بعد جزءاً من الذّهنيّة الواعية داخل المجتمع، وهذا هو بالتحديد ما يُشكّل "السيّد المهيْمن الفعليّ"، أو الطرف الثالث الموجود داخل الفرد أو الجماعة المنفلتة من الضبط الإجتماعي؛ هذا "الدّاخل" هو ليس إلاّ اللاواعي.

من الخطورة بمكان، وهذا هو شغل إسرائيل المنهجيّ، أن تتدخّل هذه المنظومة المهيمنة في تشكيل وعينا، فما بالكم وهي تدأب على تشكيل لاوعينا، حيث نعود لندور في فلك النقاش الفقهي الإسلامي التقليدي الذي تساءل طرفاه حول ما إذا كانت القوانين عادلة لأنها تعبّر عن إرادة الله، أم على العكس، في أنها تعبر عن إرادة الله لأنها عادلة؟!... هذا النقاش التاريخي لم ينته إلاّ بالحرب، ولم يكن بوسع أحد غير (الله) أن يُجيب عن سؤال الإقتتال هذا.

تعتقد الجهة المشتكية الى القضاء/ الى سُلطة القانون، تعتقد أن القانون، سواء أكان حقوقيّاً أو أخلاقياً أو دينيّاً، هو قانون عادل، وتذهب هذه الجهة الى حدٍّ بعيد من سَوْق المبرّرات لهذا الإعتقاد. (حدث هذا حين طالبت هذه الجهة نفسها السيد عزمي بشارة بالمثول أمام القضاء الإسرائيلي!) ذلك، دون الإنتباه الى محدوديّة إمكان تقديم هذه المبرّرات والإمساك بالحجّة دون أن تفلت منها. هذا، في التحليل النفسي الإجتماعي، يشير الى عجز مفهوم "البيْن – ذاتيّ" المزعوم في العلاقات الإنسانيّة المجتمعيّة عن توفير حلٍّ لإشكاليّة الخطاب الإسرائيلي، أو ما أسميناه بالطرف الثالث، وهو طرفٌ متعالي.

في كتابه "نظريّة عامة في المعايير"، فشل هانز كيلسن النمساوي في الإجابة عن السؤال الهام: من يمنح السُّلطة فعليّاً لواضع القانون؟ وذلك، ربما لأن الإنسان أو الجماعة التي تتكلّم من موقع يفتح لها مجالات الوعي والمعرفة، لا تستطيع، في الوقت ذاته، أن تعي الموقع الذي تتكلم منه، فتكون أسيرة لاوعيها. وهذا مكمن الخطورة الذي يدفع هؤلاء الى اللجوء الى "الله" (الى إسرائيل متمثّلةً بجهازها القضائيّ في هذه الحالة) لكي يشهد على حسن سلوكنا!

رئيس البلدية (السابق)، يُشبه الآن آغا ممنون الذي كان شديد القناعة بان مصالح اليونان وانتصارهم على طروادة هو أهم بمكان من حياة ابنته. ولن أتحدث عن لوكريسيا التي اعتقدت انه من الأشرف لزوجة رومانية رفيعة المقام أن تموت من أن تتعرض للإغتصاب.

في هذا الحضيض الإداري لمدينة يُفترض أنها رائدة وصانعة للوعي الجماهيريّ؛ مدينةٌ طالما أسميْتها في كتاباتي:"مدينة الوُجدان الفلسطيني"، في هذا الحضيض كان وما زال ضروريّاً المراهنة على خطاب بديل: خطاب الهامش وخطاب "المهزومين" أمام تسونامي قطيعيّ ينجرف ويتعارك في لُجّة الخطاب الغرائزي الذي يتضمّن مشاعر النّقمة والإحتجاج دون البحث عن رؤية وأفق بالضرورة، ويتضمّن الغريزة الطائفيّة ونعراتها الخطيرة التي تكرّسها السّلطة المهيمنة في لاوعينا، ويتضمّن الخطاب المنفعي الضيّق الأفق والذي يُطيح بخطاب الصالح العام.

الخطاب المتعارك المهيمن، ومن المفارقة غير المدهشة أن طرفاه من صُلبٍ واحد ومن رحم واحدة، لا يميّز بين القانون الوضعي الذي يمنع العنف ويُعاقب عليه، وبين المعيار الذي يمنعنا من ممارسة العنف وتكريس الإستقطاب والإحتدام الأهلي. يذكرني هذا بحجج أرسطو حول "خطأ الحكم" (Amartia) الذي يشكّل عالم التراجيديا. ويذكّرني خطاب الجهة المشتَكية الى القضاء الإسرائيلي بما أسماه فرويْد "عودة المكبوت" المعنى بمشكلة الطرف الثالث (الإله/ إسرائيل) المهيمن. والحديث هنا ليس عن رغبة تتعارض مع القانون وتفلت منه، بل رغبةٌ يمحضها القانون ذاتُهُ كيانَها.

لقد تجلّت في الناصرة الأم عُقدةُ أوديب. وفي حين، تمثّلت عقدة أوديب، كلاسيكيّاً، في ثالوث يتكوّن من طرفين أحدهما الأم المتنازعُ عليها من قبل طرف ذكوريّ يتمثّل بالإبن والأب، فإننا هنا أمام معضلة مكمنها أن الناصرة/ الأم لا يمكنها أن تكون مجرّد موضوع للتنافس يأخذ الطفل منها حاجات تتحول الى مطالب... إن الأب هنا لم يعد هو ذاته الأب في الثالوث الأوديبي التقليدي، بل أصبح نائباً عن الطرف الثالث الذي يُصبح لاعباً رابعا في هذه العُقدة: القانون (وجه إسرائيل في هذه الحالة).

تقول روايةٌ شهيرة أن جنرالاً عسكر مع جيشه المنتصر في أسفل جبل، وحين استلقى ليستريح، رفع رأسه فرأى رجلاً جالساً فوق قمّة الجبل. صرخ سائلاً: "من تكون لتتجرأ على الجلوس فوقي؟" أجاب الرجل: "قبل أن تسألني أخبرني من أنت؟". أجاب: "أنا رأس هذا الجيش المنتصر". قال الرجل: "من فوقك؟" أجاب: "المارشال فلان". ومن فوق المارشال؟ سأل الرجل. أجاب الجنرال: "الملك". فقال الرجل: "ومن فوق الملك؟". أجاب القائد: "لا شيء فوق الملك!"... ابتسم الرجل وقال: "أنا هو هذا اللاشيء".

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com