ربما لم يحدث في تاريخنا المعاصر أن تكون لكتاب (مجرد كتاب) رمزية مزدوجة، حادة كسكين، مثلما كانت الحال مع كتاب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، خاصة منذ صعود المد الأصولي في السبعينات، وطغيانه على شكل موجات متتابعة دائما سيكون طه حسين رأسا مستهدفا فيها، ورمزا لوجهي الصراع بين من يسمّون دعاة التنوير وبين أنصار الماضي الذهبي، بين من يعتبرون العميد مثالا نادرا على قدرة حضارة مأزومة على تجاوز عثراتها والتعاطي بندية مع الحضارة الغالبة، وبين من يعتبرونه نموذجا للتغرب، وإفساد الشخصية الحضارية (الاسلامية خصوصا) بالارتماء في أحضان الغرب.

يكون لذكرى العميد عند الأولين طعم الأمل والثورة، وعند الأخيرين طعم الخيانة والعمالة. وكلما احتدم الصراع بين هؤلاء وهؤلاء كان كتاب «في الشعر الجاهلي» رمزا متصارَعَا عليه يدخل المعركة أحيانا كنوع من النكاية، كدليل على تحرر العقل، والقطيعة مع أوهام الماضي مرة، وكبيّنة على غواية الشيطان بخرق المقدسات والتجرؤ على المبادرة بالكلام فيما انتهى فيه الكلام تارة أخرى.

الكتاب الذي منع في حينه وحوكم العميد لأجله فبرأته ساحة القضاء، لعدم توفر نية الإساءة إلى المقدسات، هذا الكتاب رغم الطبيعة التخصصية له، ظلت الفكرة الأساسية والمنهجية فيه متخطية حدود التخصص (من يعبأ لكتاب يناقش قضايا الشعر قبل أكثر من 1400 عام؟!). واعتبرت قضية «الشك المنهجي» رغم بساطة محتواها ضربا من تجاوز الحد تتخطى سياج الأكاديمية إلى الحياة العامة، لتلقي بظلها على الصراع الاجتماعي والفكري والسياسي على السواء... وكأنها توقظ جراح المجتمع كلها بضغطة؟

والسؤال: كم من الكتب المتخصصة والدراسات الأكاديمية المحشورة في رفوف جامعاتنا اليوم تملك هذا الوعي المتجاوز؟ وما قيمتها غير شهادة الدكتوراه المعلقة في غرفة مكتب بجوار صورة باسمة لصاحبها مع لجنة التحكيم!

كم شخصية أكاديمية في حياتنا كانت قادرة على أن تلخص قضية مجتمع كامل، في الوقت الذي تفكر فيه بقضية منهجية في دراسة تاريخ الأدب!

حينما أشيع العام الفائت أن بعض المنتمين لتيارات متشددة حطموا رأس تمثال العميد في مسقط رأسه بمحافظة المنيا كان الخبر، صدق أم كذب، تأكيدا متكررا على الرمزية المحورية للأعمى المتبصر والمستنير، لابن الأزهر والسوربون معا، الريفي المؤسس لقواعد المدنية.

حاجتنا إلى طه حسين، بعد أربعين عاما على رحيله، كباحث وكاتب وأديب شبه موسوعي تنقّل بين الحديث عن «الديموقراطية» و«مستقبل الثقافة»، وبين المرور «على هامش السيرة»... حاجتنا إليه تؤكد أننا لم نبرح مواطئ أقدامنا منذ مائة عام، الأسئلة نفسها تتكرر، لكن بعد أن صارت محملة برمزية فارقة كأداة في صراع، وهو ما لا يسمح بإعادة التفكير في مشروع العميد كله بعين «الشك المنهجي»، بينما يطوق الشك أعناقنا وحياتنا كلها.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com