عن البديل... وعن الماعز

قرّرت "الجبهة" أنه ما من بديل عن إعادة ترشيح رامز جرايسي لرئاسة البلدية، إذا كانت تريد أن تضمن فوزها وأن تتجنب صراع إنفلاتسيا الترشيحات داخلها، ممن بغالبيتهم الساحقة لم ينضجوا بعد لهذا المركز. 

للسيد المسيح الفلسطيني النصراوي، وللرسول العربي محمد... لا يوجد بديل. أما لمن يشغل أعلى المناصب الدنيوية النصراوية فيوجد كم من البدائل المناسبة. لذا، من الأصح القول إنه لم يوجد داخل الجبهة البديل الأفضل والضامن للنجاح، عدا عن جرايسي رامز لرامز جرايسي.

وصدقت الجبهة في هذا. كذلك كان جرايسي صادقا حتى النهاية في إصراره على عدم الترشح، وكان صادقا ومسؤولا حتى النهاية إزاء جبهته ومدينته حين تراجع مضطرا عن هذا الإصرار. 

"الجبهة" التي كانت على مدى عقود ماضية، ومنذ سبعينات القرن الماضي، بستانا ودفيئة لتنشئة القيادات أصبحت أرضا شبه قاحلة، وما من بارز فيها اليوم إلا من كان شابا من أعضائها في السبعينات. لذلك على الجبهة أن تحاسب نفسها، وتعيد النظر في نهج عملها وتعاملها. المئات والآلاف من متوسطي العمر في ناصرة اليوم، وبينهم عشرات البارزين، تركوا الجبهة أو انضموا إلى أحزاب وأطر منافسة لها، أو آثروا الخروج من صفوفها، أو أخرجوا، وفضلوا دعمها السلبي عن بعد. فلتسأل الجبهة نفسها: لماذا؟

نائبان من نواب جرايسي في الدورة الحالية للبلدية أصبحا على رأس قائمة معادية للجبهة. ونائب ثالث وأخير يقول إنه لا يريد وإنه غير مناسب لمهمة الرئاسة. لهذا، وليس لهذا فقط، يُسأل السؤال: ألم تفضّل الجبهة ومنذ عقود، الكسب الانتخابي السريع والمؤقت، ضمن هذا الحي و/أو العائلة و/أو الطائفة و/أو الشريحة الاجتماعية الخاصة؟ لقد كتبت لهم في أحد مقالاتي قبل عقد: ماذا ينفعكم إذا ما كسبتم الانتخابات وخسرتم أنفسكم؟! على نفسها وعلى رامز جنت براقش الجبهة. 

وها أنا أتذكر الآن مثالا أورده فريدريك إنجلز في أحد كتبه، شبّه فيه بعض القيادات السياسية التي لا ترى أبعد من أنفها ومن مصلحتها المؤقتة... بالماعز الأسود. قال إن الماعز يأكل جذور النباتات فيقتل نموّها، لأنه ماعز. ولو فكّر تفكيرا مستقبليا لأبقى عليها ولرعاها، لأنه عندها كانت ستنمو أشجارا وارفة بإمكانه أن يتغذى عليها لسنوات وسنوات قادمة. 

أقول هذا، وأعود وأؤكد أنه حقا لا يوجد بديل ناضج وأفضل من جرايسي لقيادة البلدية، وقادر على النجاح في الانتخابات، لا داخل الجبهة ولا خارجها بين المرشحين الأربعة الذين ينافسون رامز. 

الخطأ والخطيئة... والديناصورات

وعن عودة... المدينة

ألاحظ تراجعا واضحا في الاستقطاب الطائفي في المدينة. يظهر أن الناصرة تتماثل للشفاء من مرض عضال أصابها في التسعينات. لكنني غير مطمئن كليا إلى أن الحركة "الإسلاموية" التي أصابها تضخم غير طبيعي على خلفية ذاك المرض الذي وضعت هي فيروسه، لن تعود لتسعيره بهدف الكسب الانتخابي. الأمل هو أن يكون أهل الناصرة، من دياناتها وطوائفها وأحيائها، قد تحصّنوا حقا من الاتجار بالدين. لا تقطن الناصرة يا هؤلاء غالبية أو أقلية مسلمة أو مسيحية، وإنما تقطنها وتملكها وتضمن حاضرها ومستقبلها غالبية عربية فلسطينية مطلقة... بمسليحييها.

كنت منذ عقود قد نبّهت وكرّرت أن الجبهة ليست طائفية، لا فكرا ولا سياسة ولا ممارسة ولا نهجا ولا تركيبة، لا لقياداتها ولا لقائمة ترشيحاتها الانتخابية. "الإسلاموية" هي الطائفية في كل هذه التصنيفات التي ذكرناها. ولا أحرّر الجبهة من بعض أخطائها - في السنوات الأولى لظهور الأزمة - في معالجة هذه الآفة. لكن، وكما كتبت قبل عقود، أكرّر اليوم: شتان ما بين الخطأ والخطيئة. هنالك من ارتكب الخطيئة تلو الخطيئة، مع سبق الإصرار والترصد، وهنالك من أخطأ أحيانا في معالجة هذه الخطيئة وصدّها. 

لكن يستفزني وجود علمانيين قوميين، يوازون ويساوون بين الخطأ والخطيئة، ويعادون من أخطأ أحيانا ويصمتون عن جريمة أصحاب الخطيئة الدائمة. بل تصل الأمور أحيانا لاستجداء التحالف مع أصحاب الخطيئة بهدف إسقاط الجبهة الأقرب إليهم، فكريا وسياسيا واجتماعيا. لا دخل لهكذا موقف مشين لا بالقومية ولا بالمبادئ ولا بالمسؤولية الوطنية ولا حتى بالأخلاق.

وإنما هذا نتاج لحزبية القبائل ولقبلية الأحزاب. دموع ودماء المعلم جمال عبد الناصر، تقطر قـَطرا يملأ قـُطراً من الأسى على ما آل إليه بعض تلامذته ممن نسوا شعاراتهم عن إعادة "بناء وتوحيد الحركة الوطنية" وعن "هوية قومية - مواطنة كاملة" وعن "مرحلة جديدة... رؤيا جديدة".

يجوز، بل من المطلوب والواجب، نقد الشيوعيين والجبهويين، بما فيه النقد الحاد والمواجهة الرافضة لبعض أفكارهم ونهجهم العملي. لكن لا يجوز أن نحيل الاختلاف إلى خلاف عدائي، وأن تكون الأحقاد والعداوات المتأصلة للشيوعيين لدى البعض برنامجا سياسيا ونهج ممارسة. هذا تسفيه للسياسة وحط لمستواها إلى مستوى ثقافة السوق - كل "تاجر" يتنافس ويعادي أكثر "التاجر" الأقرب إليه، الذي يبيع البضاعة نفسها أو الشبيهة بها. 

الطائفية هي أعدى أعداء القومية والجامع الوطني. ولم يخطئ مفكرو ومؤسسو "الإخوان المتأسلمون"، من وجهة نظرهم، حين قرروا أن عبد الناصر هو أرذل وأحقر خلق الله جميعا. لكن أخطأ إلى حد الخطيئة من رفض في الناصرة دعوة الجبهة للجلوس وللتفاوض بهدف التوافق المشترك لخوض الانتخابات. لم يكلفوا أنفسهم حتى عناء الرد على الدعوة.

فخسروا وخسّروا ناصرتنا وشعبنا. أنا متأكد من أن منطلق الدعوة للتفاوض كان جديا، وأن الجبهة كانت على استعداد لقبول ترشيح ثلاثة تجمعيين ضمن أول اثني عشرة مرشحا في قائمة مشتركة، مع تخصيص نيابة الرئيس للتجمع. تخيلوا أية آثار وطنية إيجابية وأية تداعيات لتنقية الأجواء كان سيتركها هذا التحالف على ناصرتنا وعلى سائر مدننا وقرانا العربية وفي البلاد عموما. ولا يتفلسفنّ أحد ما مدّعيا أن الجبهة استفادت انتخابيا من الطائفية ولهذا ترعاها. ما كُتب وقيل في السياق الطائفي، بحق الجبهة وقيادتها، بمن فيهم رامز جرايسي أولا، لا يحتمله أي إنسان مسؤول.

لقد وصل الأمر إلى حد التهديد المتواصل بالقتل... بل ولمحاولة تنفيذ هذا. ويصمت البعض، ويوازي بين الجاني والضحية، بل يلوم الضحية ويساير الجاني جُبناً، أو تحالفا أو زواجا قوميا - إسلامويا، لا إسلاميا. 

كانت الجبهة في عقود سبقت تلك الآفة الطائفية تحصل على 80-90% في بعض الأحياء "المسيحية" وعلى 60-70% في بعض الأحياء "الإسلامية" (آسف لاضطراري إيراد الوصف الديني للأحياء، لكن هذا نتاج زمننا العربي الرديء). فأي استفادة جنتها الجبهة من هذا الوباء؟!علما أنه في آخر ثلاث انتخابات سابقة تراوحت نسبة نجاحها بين 51 إلى 53% فقط!

ولمعلومية الجميع، وأعرف هذا من داخل الداخل -"الإسلامي والمسيحي"، أن هناك فضل كبير لرامز جرايسي بالذات في تنقية أجواء المدينة، في السنوات الأخيرة، بهذا الخصوص، وبتعزيز النسيج الاجتماعي الوحدوي لها. لا يعرف الجميع مدى التعالي عن المرارات، وكم من الجهود الجبارة والمثابرات التي بذلها رامز في هذا الخصوص. 

يعتقد كاتب هذه السطور أن هذا الإنجاز لرامز من أعظم إنجازاته البلدية العمرانية والتطويرية. إذ أي إنجاز وأي أجواء كان بإمكانها أن تتم وأن تتعزز في ظل غياب مدنية المدينة؟ ويراهن كاتب هذه السطور أن التصويت لرامز لن يشهد هبوطا في الأحياء "الإسلامية" لصالح "الإسلاموية"، وإنما قد يشهد صعودا. وإن هبطت أصواته هناك فستهبط لصالح قائمتي "ناصرتي" و"الأهلية". وأراهن أن نسبة التصويت للجبهة ستهبط في الأحيا "المسيحية" بالذات. 

كتبت في مقال قبل عقد، حين كانت الطائفية مستعرة، أنه عندما تتصارع الديناصورات تموت العصافير في الغابة (قصدت بالكلام الاستقطاب الطائفي ونمو البديل له). وأضفت أن المدينة غابت - ة (بالتاء المفتوحة والتاء المربوطة) بمعنى أن الطائفية تغيّب مدنية المدينة وتحيلها إلى غابة. 
نأمل أن تسفر نتائج الانتخابات القادمة في المدينة عن كونها عادت - ة، بمعنى أن تكون المدينة قد "عادت" وأن تكون المدنية "عادة" فينا وفيها.

I have a dream

عندي حلم. أحلم "بجبهة" تنقذ ذاتها بشجاعة وعلنية وتعيد النظر ببعض مواقفها وممارساتها، فتنقذ ذاتها باستعادتها لذاتها. جبهة تتخلص من كولسترول تجمّع في بعض شرايينها، وضعف بُعد نظر أصاب أعينها. جبهة لا تعود بتركيب قائمتها لما هو أشبه بقوائم الشيوعيين وغير الحزبيين في خمسينات وستينات القرن الماضي، فصحيح ماضٍ مضى هو خطأ حاضر أتى. قائمة شابة وعصرية ومهنية، ووطنية. قائمة لا تكون فيها بطاقة العضوية الحزبية الضيقة معيارا أساسيا وحيدا للترشيح. ويا حبّذا لو تضم قائمة الجبهة، عدا عن الجبهويين المتحزبين، لاحزبيين من وطنيين تقدميين مستقلين. 

أحلم بحزب "التجمع" وقد قرر أخيرا، إذ أن الأوان قد آن لهذا منذ زمن، خياره الاستراتيجي: هل يسعى للتعاون والتحالف مع الشيوعيين والجبهويين لتعزيز الخيار الوطني والتقدمي اجتماعيا لشعبنا، أم يريد إضعافهم والحلول مكانهم؟ ومتى سيكف عن المسايرة لحركات رجعية، إلى حد الاذدناب أحيانا لها، متهما الشيوعيين بأنهم صهينوا وأسرلوا الجماهير العربية الفلسطينية الباقية في وطنها؟ هذا التساؤل لا ينفي أبداً نقدي للجبهة في كيل اتهامات مغرضة من قبلها للتجمع. ولا أبحث عن البادئ - الجبهة أم التجمع، ولا يجوز القول إن البادئ أظلم، لأن القضية هنا وحدة أقلية قومية وقوى تقدمية علمانية ويسارية تعيش في عقر دار الصهيونية. 

أحلم بقوى تقدمية ومتدينة ولا حزبية تتصدى للفكر الإسلاموي الإخواني وتتحداه بمنتهى الشجاعة والعلنية والصراحة، قائلة له: من يُطيّف ويحزّب الدين، بتحويله إلى طائفة والطائفة إلى حزب، وينصّب نفسه ممثلا لله على الأرض وناطقا باسم الرسول محمد ومفسراً وقيّما على القرآن الكريم (حاشاهم جميعا)، ويتاجر بالطائفية لمآرب سياسية وذاتوية رجعية... هو معادٍ للإسلام أولا، ولشعبه وتقدمه ووحدته الوطنية ثانيا. وأحلم بتخلي "الإسلاموية" عن نهجها بهذا الخصوص. 

أحلم بناصرة تنبذ الفطاريش (الفقع) الانتخابية التي تظهر عشية الانتخابات لمآرب ومصالح ذاتوية، دون أن تحمل أي فكر أو نهج عمل سليم، أيا كان. بما فها قوى تترشح وتنفلت بالهجوم على "العدو" لأن هذا رفض إعادة ترشيحها ضمن قائمته، علما بأنها كانت في أمس قريب جدا جدا تشيد ببيته الدافئ وتقول إنها لن تتركه، وكانت صاحبة قرار هناك، لكنها اليوم تحاربه بتهم الفساد والمحسوبيات...

أحلم بمدينة تنتصر في الانتخابات لمدنيتها، لا لطائفيتها ولا لحارويتها ولا لفئويتها ولا لحزبويتها ولجاهليتها... 

لمن سأصوت...؟

تخلّصت منذ سنوات عديدة، بل ومنذ عقود...، من فئوية الأحزاب وحزبوية الفئات. خياري شخصي، وهو خيار قومي ديمقراطي يساري وتقدمي اجتماعيا. وما أنا بقائد ولا بزعيم منتمٍ لحزب ما حتى أقول للناس صوّتوا لهذا ولا تصوتوا لذاك. أنا مواطن عادي سأختار مدنيّة مدينتي وسأصوت لها. 

لكن أقول لأهلي في الناصرة، نحن بقية باقية في وطنها، وجزء لا يتجزأ من شعب عربي فلسطيني. هذا حاضرنا وهنا مستقبلنا، والعنصرية الصهيونية الغاصبة هي عدونا، والناصرة مدينتنا، بل عاصمة لشعبنا الباقي، وعالمية لكونها مدينة للبشارة ولتاريخيتها. ويظهر، في احتداد صراعاتنا الحزبوية وتهجماتنا الانتخابوية، وكأننا نسينا أن عدونا الأساسي المشترك هو الصهيونية وتمييزها القومي والمدني الذي خنق مدينتنا وشوّه مدنيتنا. وكان لبعضنا دور مسيء في هذا. فالخراب قد يكون صناعة "قومية" أيضا، ودودُه من عوده أحيانا. 

عندي من الاستياء ومن الغضب وحتى من أحقاد متراكمة بحق جهة حزبية ما... "سدّة ملانة". لكن الاستياء والغضب والأحقاد لا يجوز أن تكون خلفية سليمة للموقف وللنهج ولبرنامج العمل الوطني والأخلاقي المسؤول والمنشود. هذا عموما، فكم بالحري في ناصرة الجليل عاصمة العرب الباقية في إسرائيل، والمرتكز الوطني السياسي والثقافي، بتعدادها السكاني وجغرافيتها وتاريخها ومكانتها وأثرها القومي الوطني والثقافي؟ 
"انتصرت الناصرة"... هذه كانت البشارة التي نطقت بها الناصرة سنة 1975. "كلنا على طريق الناصرة" - هذا كان يومها جواب شعبنا من أقصى النقب جنوبا إلى أعالي قمم الجليل شمالا.

صوّتوا للناصرة، فتنتصر الناصرة بكم، وتنصركَ يا شعبي من شمال الجليل إلى جنوب النقب. 

* * *
تنويه: ذكرتُ في الجزء الأول من هذا المقال أني كتبته بجزأيه بتاريخ 22 آب 2013، أي قبل شهرين من موعد الانتخابات، ونشرته دون تبديل أية كلمة جاءت فيه. لكنني أنوّه الآن، في أواخر أيلول، بأني بالغت وأخطأت في تقدير قوة "الإسلاموية". يظهر أن الناصرة تعافت من خطر الاستقطاب الطائفي، وأن قوة "الإسلاموية" في تراجع كبير. لدرجة أنها قد تتنافس، بين المرشحين الخمسة على الرئاسة لاحتلال المكان الرابع.

أما علي سلام فسيحتل المكان الثاني بعد رامز جرايسي. وغالبا سيكون المكان الثالث لحنين زعبي، والخامس ليوسف عياد.

بإرسالي هذا المقال بجزأيه للنشر، يكون ما زال يفصلنا شهر عن موعد الانتخابات - 22 أكتوبر 2013، بما قد يحمله من مفاجآت تسعير، أو انسحابات وتحالفات بين المرشحين. لكن رغم هذا ما زلت أعتقد أن جرايسي سيفوز من الجولة الأولى.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com