يبقى مفهوم الثقافة في مجتمعنا محصورا في قوالب وصناديق تأبى ان تفتح وتنفتح لتغني مجالات الحياة الأخرى لتطورها وتعطيها وتثريها، فما زالت الثقافة في نظر من يشارك في صنعها بابا من أبواب الحياة المنقطع عن أبوابها ونواحيها الأخرى، وتبقى الثقافة في نظر القلة القليلة من مستهلكيها في مجتمعنا ملئا لأوقات الفراغ والترفيه عن النفس وهذا في أحسن الأحوال.

هنا لا بد من الإشادة في الحراك الثقافي الفلسطيني في الداخل والآخذ في النمو والتعاظم بالسنوات الأخيرة والنابع بالأساس من رغبات واجتهادات شخصية غير مؤسسة وغير مبرمجة لتشكل رافعة للثقافة الفلسطينية في البلاد وللثقافة العامة والعالمية أيضا. بتنا نربط أهمية الحراك الثقافي وتأثيره على بعض الظواهر الاجتماعية السلبية في مجتمعنا وأهمها العنف مثلا ولكننا نحصر ونحاصر الثقافة في كتابة نثر وشعر وغناء ورقص فلوكلوري. وهناك البعض الذي يلجأ الى السخرية ليقول أن العنف كسلوك أصبح جزء لا يتجزأ من ثقافتنا وبهذا يعطي الشرعية لهذه الظاهرة كونها سلوكا متأصلا فينا وفي مجتمعنا.

لقد عرفت موسوعة الوكيبيديا الثقافة فيما يلي:" الثقافة كلمة عريقة في العربية، فهي تعني صقل النفس والمنطق والفطانة، وفي القاموس: وثقف نفسه، اي صار حاذقا خفيفا فطنا، وثقفه تثقيفا اي سواه، وثقف الرمح، تعني سواه وقومه. ولطالما استعملت الثقافة في عصرنا الحديث هذا للدلالة على الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات. فالثقافة لا تعد مجموعة من الأفكار فحسب، ولكنها نظرية في السلوك مما يساعد على رسم طريق الحياة إجمالا، وبما يتمثل فيه الطابع العام الذي ينطبع عليه شعب من الشعوب، وهي الوجوه المميزة لمقومات الأمة التي تميز بها عن غيرها من الجماعات بما تقوم به من العقائد والقيم واللغة والمبادئ، والسلوك والمقدسات والقوانين والتجارب.و إجما لا فإن الثقافة هي كل مركب يتضمن المعارف والعقائد والفنون والأخلاق والقوانين والعادات".

أتيت بهذا التعريف نسخا كما هو محاولا ان أوسع النظر بحيث لا احصر ولو بنظر حتى نفسي بالحديث هنا عن الثقافة بمفهومها الضيق غير المنفتح ومتفتح ليشمل نواحي الحياة وأبوابها المختلفة كما أسلفت أعلاه، فالثقافة هي سلوكيات الحياة وهي القيم والمباديء وهي العقائد وهي اللغة وهي الفنون وهي كل سلوكياتنا بكل ما فيها من خير وشر ما يعني ان سلوكياتنا هي دلالة على ماهية ثقافتنا.

تنظيم الحراك الثقافي

ننشط في مركز مساواة منذ سنتين في محاولات لخلق حراك ثقافي فلسطيني في الداخل ولا نعني تصنيع وإنتاج ثقافة بالمعنى الدارج والمتعارف عليه بين متداولي الثقافة وإنما أخذنا على أنفسنا محاولة تنظيم الحراك الثقافي ومأسسته ككيان وهيئات قادرة على خلق وتطوير حراك ثقافي منظم ومدروس وليس عشوائيا بمعنى غير المنظم وغير المدروس. ولأننا نعي ارتباط ثقافتنا كمجتمع بمفهومها الأوسع وهي القيم والمبادئ واللغة والسلوكيات وحتما هي الرقي الفكري والأدبي والفني والاجتماعي للأفراد في نواحي الحياة المختلفة، فقد اخترنا هذا الدور، دور المنظم والمحرك ووجدنا لنا شركاء يتوقون لهذا التوجه بكل ما يحويه من مطبات وسياسات وحساسيات، فقد وضعنا الهدف وحددناه بالقول أن الثقافة هي ليست الكتابة والشعر والغناء والرقص الفلوكلوري فحسب وإنما هي وقبل كل هذا أنماط ومدارس فكرية، منها من يريد أن يُحلق بمجتمعنا وشعبنا ليتقلد الدور الريادي الذي يليق به ومنها ومن منطلقاته الفكرية العقائدية يحاصر ويحصر ويقزم ويلغي المفهوم الثقافي للسلوكيات ويصرها بمعتقدات ترفض الأخر بفكره وشكله وحتى تنفي شرعية وجوده أصلا.

ننتخب الثقافة نهج حياة

إن الفنون كجزء من آليات التعبير عن الفكر والأفكار باتت في العديد من المجتمعات وفي فترات تاريخية مختلفة أهم آليات التغيير والتأثير، وكان لأدب المقاومة بمبدعيه الكبار في الأدب والفن برموزه، محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد الأثر والدور الكبير في التجنيد للثورة الفلسطينية وتعزيز مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال وغرس الروح الوطنية لدى الأجيال المتعاقبة من شعبنا الفلسطيني، إلا أن هذا المد الأدبي المقاوم عجز عن مقاومة الآفات المجتمعية التي هاجمت شعبنا ومجتمعنا الفلسطيني بالداخل وبدلا من ان تسود ثقافة التعددية الفكرية وتقبل الأخر ورؤية الاختلاف كمصدر غنى ثقافي، أصبحت هذه التعددية الحزبية أيضا مصدر الأرق والقلق على مستقبل شعبنا ومجتمعنا لما زرعته من فتنة وعنف وكره لكل ما يختلف عنا ولا يبايع سيطرتنا وسلطتنا.

نحن على أبواب الانتخابات للسلطات المحلية ويكاد المشهد الثقافي الراقي والنمط السلوكي المحاور والمتقبل للأخر يختفي عن الأنظار وغير قادر على فرض ثقافة الحوار وتقبل الأخر ونشهد تغييب الثقافة حتى بمعناها وبمركباتها المقتصرة على الفنون والأدب والشعر ونجدها مغيبة من حياتنا في هذه الفترة بالذات.

كذلك تغيب الثقافة عن غالبية أجنداتنا الانتخابية وعن أولويات عملنا ونغلب تعبيد الشارع وتقسيم الغنائم بعد المعركة الانتخابية على كل المشاهد، المرئية والعلنية والمخفي أعظم. ويبدو لنا أن الحديث عن الثقافة وتطويرها وكأنه من الأمور التي لا تعنينا ونعزي ذلك إلى سلم الأولويات المختلف والاحتياجات الأساسية الغير متوفرة، إلا إننا لا نعي أن الثقافة هي من الأساسيات.

اننا نطلق نداء ودعوة لوضع الثقافة في الدرجات الأولى لسلم أولوياتنا، لان الثقافة ليست غناء ورقص وشعر وأدب فحسب، فهي كل الحياة هي الاقتصاد والتطوير وهي الأرض والسلوكيات والقيم والفكر، هي الإنسان.

 

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com