الدولة التي اخترعت لعبة الشطرنج لن تتوقف عن اللعب باحتراف على رقعتها الممتدة على مساحة الإقليم والعالم، تحرك جنودها وأحصنتها وقلاعها والوزير حين يستدعي الأمر، هكذا تمارس إيران السياسة التي صدرت للعالم رئيساً من نوع روحاني في لحظة تاريخية عندما أدركت أن رياح الحرب والحصار تشتد حتى لا يموت الملك.

كان أحمدي نجاد ضرورة تاريخية معينة حين كانت إيران تتمدد على مستوى الإقليم وتريد تصليب محورها في المنطقة، كان لا بد من زعيم لديه من فائض القوة في خطابه المدجج بالقوة النفسية ما يطمئن حلفاءه ويشجع غيرهم على الانضمام وكان ما كان وحين تمدد الملف على رقعة الإقليم واشتد التحريض الإسرائيلي والغضب الأميركي والحصار الدولي كان لا بد من زعيم آخر وخطاب آخر ينفس من حالة الاحتقان المتنامية ضدها وبشعارات مختلفة.

هكذا فعل المرشد الذي يتحكم بكل أدوات اللعبة في طهران وهو يفكر بهدوء أعصاب شديد وهو يرى أن جيوش الأعداء وخصومه تتقدم على اللوحة. فقد ترشح لانتخابات الرئاسة الإيرانية في حزيران الماضي عدد من المرشحين من كلا التيارين الإصلاحي والمحافظ فقامت المؤسسة الحاكمة في إيران بشطب كل مرشحي التيار الإصلاحي لتبقي على روحاني مرشحاً وحيداً لهذا التيار فيما أبقت على كل مرشحي التيار المحافظ، غضب حينها مؤيدو الإصلاحيين ولكن الآن أصبح مفهوماً أن هذه الطريقة عملت على تفتيت أصوات المحافظين وأبقت على مرشح وحيد للإصلاحيين لضمان الفوز للرئيس روحاني.

إسرائيل الدولة الوحيدة التي قرأت هذا اللعب الهادئ والذكي لأنها تجيد القراءة والكتابة وليس كما العرب الذين يعيشون حالة من الأمية في كل شيء وأولها أمية السياسة فأعلنت بعيد إعلان النتائج في طهران عن تخوفاتها من هذا التغيير بعد أن استطاعت تكتيل العالم ضد البرنامج النووي والاقتصاد الإيراني والدولة الإيرانية وقالت، لا تغيير في إيران وحذرت العالم من الوقوع في ما سمته "التضليل الإيراني" خشية تفتيت الكتلة التي عملت عليها لسنوات للوصول إلى إجماع دولي كان قد تحقق وأوعزت لسفاراتها وضع برنامج لمواجهة الخطر الإيراني المتمثل باللغة الجديدة التي ستتحدث بها إيران بعد انتخاب روحاني.

الرئيس الإيراني الجديد ومنذ انتخابه، بتصريحاته التي لم تتوقف ووصلت ذروتها في خطابه أثناء الاجتماع السنوي للأمم المتحدة والتي بدأها بـ"إبراز وجه إيران الحقيقي "مروراً باستنكاره للمحرقة النازية التي تمت بحق اليهود وبدعوته للحوار وطبيعة وفده الذي اصطحبه أحدث إرباكاً في الخطاب الإسرائيلي والذي امتد إلى حكومة نتنياهو نفسها حين أبدى الرجل الثاني في الحكومة وزير المالية يائير لابيد رفضه مغادرة وفد إسرائيل أثناء إلقاء الرئيس الإيراني خطابه أمام الجمعية العامة.

في الخامس من الشهر الجاري قامت صحيفة "يديعوت أحرونوت" وبمناسبة العام العبري الجديد باستعراض التهديدات المحيطة بإسرائيل بعد تغيرات الإقليم من انشغال الجيوش العربية وانهيار الدولة وكذلك وضع "حزب الله" والمنظمات الجهادية وكان اللافت حين وصل التقرير إلى إيران ان التهديد هو الخوف من المرونة التي يبشر بها الرئيس الإيراني الجديد والتي ستخفف الحصار عن إيران وستجد إسرائيل صعوبة في تمرير روايتها كما اعتادت في السنوات الأخيرة مسلحة بشعارات الرئيس السابق أحمدي نجاد حول تحدي العالم وتدمير إسرائيل وتركيب أجهزة الطرد المركزي.

منذ أيام هناك حملة إعلامية في الصحافة الإسرائيلية وافتتاحياتها كلها مشغولة بالحضور الإيراني في الأمم المتحدة وكذلك مقالات الرأي تحرض بشدة ضد إيران حيث أبدت انزعاجها من لقاء الرئيس الفرنسي بنظيره الإيراني وكذلك الدعوة الأميركية للقاء قمة بين الطرفين وكأن كل وسائل الإعلام الإسرائيلية تجندت مجتمعة لتقول للعالم، "أنتم تقعون في الفخ الإيراني"، من يتابع لغة الصحافة مع إسرائيل لا بد وأن يلاحظ حجم الغضب والانفعال من عالم واضح أنه كره الحروب وينتظر بصيص أمل ينبثق من جملة في خطاب زعيم وكأن الدولة العبرية تكره الهدوء والسلام وتعيش على أصوات الانفجارات والقتل والحروب المتواصلة وفيما العالم يتجه للحوار مع إيران وعلى رأسه الولايات المتحدة تعلن إسرائيل في ذروة لغة العقل أنها قد تضطر للعمل وحدها ضد إيران أي الذهاب نحو مغامرة قصف طهران وإشعال منطقة الجميع يدفع بها نحو التهدئة.

في هذا السياق ألا ينبغي مراجعة التاريخ الطويل للعرب وإعادة تقديم قراءة للاتجاهات السياسية في العالم العربي وكذلك إعادة تقييم جديد لتياري التصلب والمرونة وكذلك في الحالة الفلسطينية؟ فقد اعتاشت إسرائيل على رواية واحدة في المنطقة استطاعت ترويجها بدهاء شديد باعتبارها الدولة الصغيرة الضحية التي يريد العرب إلقاءها في البحر وقتل جميع اليهود هنا، وقد استمدت تلك الرواية مصداقيتها من شعارات كبيرة وكثيرة لم يتوقف مطلقوها حتى اللحظة عن تكرارها تلك الشعارات التي كانت ولا تزال تتردد في أروقة العالم وتعطي إسرائيل علامة ممتازة في التعايش وهي تتحدث كثيرا على السلام وتمارس عكس ذلك على الإطلاق.

ما قاله سامي توتشمان قائد المنطقة الجنوبية من تصريحات يجب أن تستوقف الكل لإعادة مراجعة في إطار ثنائية المرونة والتصلب في الساحة الفلسطينية ولإعادة النظر في أحكامنا تجاه الواقع السياسي الفلسطيني وتياراته، فإعلانه بأن حكم "حماس" القوي أفضل لإسرائيل وأن دولته أرسلت وفداً إلى مصر للتخفيف من الإغلاق المصري مع قطاع غزة في الوقت الذي لم يتوقف ليبرمان أثناء عمله كوزير للخارجية في إسرائيل عن مهاجمة الرئيس الفلسطيني لأن الأبواب كانت تنغلق في وجه دبلوماسييه بفعل مرونة تمكنت من مواجهة الدعاية الإسرائيلية التي قامت في العقود الأخيرة على حملة "أن إسرائيل تريد السلام بينما الفلسطينيون يرفضون ذلك" وكان العصر الذهبي لروايتها بعد "كامب ديفيد" حين تمكنت من تضليل العالم بأن الرئيس عرفات رفض التسوية لتعيد احتلال الضفة ودون أدنى تعاطف مع الرئيس الراحل ولا مع الشعب الفلسطيني الذي كان يتناثر لحمه في الشوارع طوال سنوات الانتفاضة. 

ليس كل مرونة تخدم إسرائيل وليس كل تصلب يخيفها ويدفعها لتقديم تنازلات هكذا تقول القراءة الهادئة، فالمرونة حين تكون جزءاً من لعبة علاقات عامة على المستوى الدولي تساهم في حصار وعزلة إسرائيل تكون أشد إيلاماً من شعارات تفتح لها كل العواصم كدولة تظهر كأنها تمتلك كل الحق وحملتها ضد الرئيس الإيراني الجديد منذ انتخابه مدعاة للقراءة من جديد، هل نستفيد، نحن الفلسطينيين، لعزلها دولياً بعيداً عن الشعارات التي تساند روايتها؟

 

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com