ما يتعرض له الكاتب جواد بولس من هجوم شرس في الفيس بوك والمواقع المختلفة، على شخصه وتاريخه، هو ارهاب فكري لا يجوز السماح به في مجتمعنا. تستطيع أن تناقشه وتعتبر قوله خطأ فاحشا وتستطيع أن ترفضه وتنتقده ولكن ان تتعامل معه كجريمة وتتطاول فيه على تاريخ الرجل وتشكك في استقامته وتشوه نواياه، فهذا ليس مرفوضا فحسب، بل إنه يثير شبهات حول أصحاب هذه الطريقة وأهدافهم.

لقد كتب الأستاذ جواد بولس مقالا يتحدث فيه عن قضية، وليس مجرد طرح اقتراح بأن يضمن انتخاب رئيس مسيحي لبلدية الناصرة. وأنا لا أوافق معه على اقتراحه، لكنني أقرأ في المقال تلك القضية، قضية نابعة من ألم موجود يعيشه ويحسه ويتضايق منه كثير جدا من أهلنا العرب أبناء الطائفة المسيحية. صحيح أن حلها لا يتم عن طريق انتخاب مسيحي لرئاسة بلدية الناصرة أو بيت لحم أو رام الله، ولكن هذه القضية تحتاج إلى علاج. والهجوم على شخص جواد بولس ومحاولة تشويه تاريخه، هو محاولة للتهرب من واجب البحث عن علاج، ومحاولة لطمر الرأس في الرمل على أمل أن تختفي المشكلة.

هناك حقيقة تعيشها شريحة مهمة من المسيحيين العرب، ليس فقط في الناصرة وفي بيت لحم. إنها مشكلة حية وصارخة في عالمنا العربي كله. وما يحدث في سورية وفي العراق وفي مصر يعمقها ويجعلها أشد خطورة وإلحاحا. ومن نتائجها الخطيرة أن كثير من المسيحيين يهاجرون أوطانهم العربية لأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان فيها. وليس صحيحا إلقاء اللوم على المسيحيين فيها واتهامهم بضعف الانتماء الوطني. بل الصحيح هو في توفير الأمان لهم حتى يشعروا فعلا بالانتماء.

في مصر وقف المسلمون والمسيحيون معا وأقاموا لجانا شعبية لحراسة الكنائس القبطية، ردا على جرائم احراقها. في فلسطين أقدم الرئيس الراحل ياسر عرفات على تضمين الدستور قوانين تضمن الوجود المسيحي الفلسطيني في عدد من المناصب القيادية. وفي المعارضة السورية اختاروا جورج صبرا رئيسا لمجلسهم حتى يردوا على اتهامات النظام بأنهم يمارسون العنصرية ضد المسيحيين. وكلها مبادرات مشرفة في قصدها، بغض النظر عن صحة الطريقة أو عدم صحتها.

ونحن العرب في اسرائيل، هذه الشريحة المجربة من شعبنا الفلسطيني، مررنا بتجارب غنية في هذا المضمار. رفضنا محاولات السلطة التعامل معنا كمجموعة طوائف. ورددنا على هذه المحاولات بموقف وطني راسخ كالجبال. انتخبنا ذات مرة كتلة للكنيست تضم اميل حبيبي وتوفيق طوبي كعضوين عربيين وحيدين في قائمة الحزب الشيوعي ولم يسأل أحد يومها عن مسلم ومسيحي. وانتخب أكثرية النصراويين، أكثرية المسلمين وأكثرية المسيحيين، توفيق زياد لرئاسة بلدية الناصرة. وانتخب أكثرية النصراويين المسلمين والمسيحيين رامز جرايسي رئيسا للبلدية، وانتخبته غالبية رؤساء السلطات المحلية العربية المسلمين رئيسا للجنة القطرية وتعاملت معه جماهيرنا العربية كأحد أهم قادتنا السياسيين ونظرت اليه باعتزاز.

هذا يعني أن جماهيرنا، وبالرغم من نفحات العنصرية التي تسربت الينا وسيطرت على خطابنا السياسي في كثير من الأحيان، استطاعت صيانة النسيج الاجتماعي وصد محاولات تخريبه. لهذا لا تحتاج إلى قانون فوقي يفرض رئيس بلدية مسيحي لمدينة البشارة.

لكن هذا لا يعني أن نتجاهل وجود المشكلة التي تنخر عظم مجتمعنا، وتتعلق بتفشي مظاهر العنصرية، مسلمين ضد المسيحيين والدروز او مسحيين ضد المسلمين والدروز، أو دروز ضد المسلمين والمسيحيين في مجتمعنا. فهذه الظاهرة موجودة في مجتمعنا ويكذب من ينفي وجودها. ومن تبعاتها هناك عنصرية بين الحمائل والحارات والبلدات أيضا. وسببها ليس فقط السلطة ومخططاتها، وليس فقط ضعف الايمان والانتماء، بل أيضا ومن اشد اسبابها تأثيرا هو الانتخابات القائمة على العائلية محليا وهو أيضا انتشار أحزاب على خلفية طائفية، مثل الحركة الاسلامية. ومن أخطاء هذه الحركة أنها لم تعمل شيئا لطمأنة الأشقاء المسيحيين. أحداث الناصرة فيما يعرف بقضية شهاب الدين، التي اثارتها السلطة ولكن منفذيها كانوا من أبناء الناصرة، ثم قضية المغار وقضية شفاعمرو .. كلها نماذج صارخة على ذلك.

وما فعله جواد بولس، هو أنه طرحها كقنبلة في وجوهنا لعلنا نصحو ونعالج. قد يكون توقيتها غير موفق لأنه يربك المعركة الانتخابية في الناصرة بالذات. وقد راينا كيف انقض خصوم الجبهة عليها بسبب هذا المقال، مع أن المهاجمين أنفسهم من القوائم الأخرى، حرصوا على تضمين قوائمهم بمسلمين ومسيحيين. وتحدثوا عن التمثيل المسيحي كقضية أساسية.

وإن كنت أختلف مع الأستاذ جواد، لكوني على قناعة بأن الناصرة لا تحتاج إلى قانون يلزم بانتخاب رئيس مسيحي، إلا أنني لا أرى في طرحه جريمة. فقد استمد الاقتراح من ألم موجود في الشارع، وجواد هو ابن الناصرة أيضا، يتواجد فيها باستمرار وله فيها أقارب ومعارف واصدقاء، مسلمين ومسيحيين. واستمد الفكرة من تراث ياسر عرفات، ومنظمة التحرير الفلسطينية. وبدلا من محاربة جواد، فتشوا عن وسيلة تعيننا على معالجة المشكلة التي دفعته إلى التفكير في هذه الطريقة، بدلا من إطلاق الاتهامات له والتي تدل على نوايا سيئة ورغبات أنانية لمن يحسب حسابات الربح والخسارة الشخصية والحزبية من وراء مهاجمته.

جواد بولس لم يكتب بنوايا سيئة او عنصرية. فهو انسان وطني حريص، ومناضل عريق، رصيده عال وكل من يعرفه ويقرأه يعرف انه فوق الطائفية وفوق الخلافات السطحية. يعرف انه كاتب مفكر، وشجاع وصاحب رأي. في كثير من المواقف كان وحيدا في طروحاته، لأن قلة تتمتع بالشجاعة في قول الحقيقة. وهناك سياسيون كثيرون يحقدون عليه بسبب مواقفه الجريئة في مناقشتهم. وربما هناك من يريد أن يصفي الحساب معه. وهذا هو مصدر الهجمة عليه الأول.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com