لبيت دعوة الصديقين نهاد ومعين شمشوم مسرورا لمشاهدة الإبداعية الرائعة "علي بابا والحرامية"، وكان ذلك في مقر الجمعية النصراوية للفنون ومركز موال للفنون في الناصرة، والتي قدمتها فرقة موال النصراوية للفن الشعبي والحديث.

قصة علي بابا والأربعين حرامي هي إحدى اكثر القصص الشعبية التي علقت في الأذهان وتوارثتها الأجيال، وأحبها الكبار والصغار على حد سواء. فتكتمل فيها الشخصيات وتتضح فيها عوامل التشويق، وإثارة السرد ومغامرات الأولاد وذكاء المرأة ودهائها، وغلبتها على قوى الشر بمعونة الرجل وتدبيره.

قصة على بابا تروي حكاية الحطاب علي بابا الذي يبيع الحطب في السوق العمومية لكي يكسب قوته، ويحاول أن يتزوج الفتاة الرشيقة والجميلة مرجانة، ابنة عمه، لكن حالته المدقعة تحول دون ذلك، فامرأة عمه، سلطانة، سيدة متسلطة وتريد تأمين حياة رغيدة لابنتها، ولذا قررت أن تزوجها لرجل ثري فقط. أما زوجها قاسم فلا يهش ولا ينش، وهو الرجل المغلوب على أمره، ينصاع لأوامر زوجته ويطيعها طاعة عمياء.

وفي أحد الأيام عندما كان علي بابا برفقة حماره الوفي والمخلص الذي يخدمه بأمانة ومحبة في الغابة، يشاهد اللصوص وزعيمهم يتقدمهم، فينتهر الصخرة الضخمة في الغابة بعبارة "افتح يا سمسم" فتفتح عن مغارة مليئة بالذهب والجواهر والكنوز التي سرقها هؤلاء اللصوص. ويبقى مختبئا ريثما ينصرف اللصوص من المكان وزعيمهم يعلن كلمة السر "اغلق يا سمسم"، فيتقدم من المغارة ويقول كلمة السر: "افتح يا سمسم". وتفتح المغارة على مصراعيها، فيملأ جيوبه وخرج الحمار ما استطاع أن يحمل، ويعود إلى منزله المتواضع ويبدأ بنثر النقود ويرش الفلوس على التجار الذين ابتاع منهم قوته بالدين، ثم يغدق على فتاته مرجانة بعقود وجواهر نفيسة فيتزوجها، ولكن هذا يفتح عيون عمه قاسم وامرأته التي تقف له بالمرصاد وتتساءل من أين لك هذا!! فيرفض أن يخبرها، غير أن عمه يتوسل إليه لكي يخبره فيقول إنها مغارة اللصوص، وفيها من كنوز الأرض ما لا يوصف. ويقرر العم قاسم أن يذهب إلى تلك المغارة ويتمكن من دخولها، ويعب من أموالها، ويغرف من كنوزها، وما أن هم بالخروج حتى نسي كلمة السر، فعلق بداخلها، وأتى اللصوص وأشبعوه ضربا وأثخنوه جراحا حتى اعترف لهم كيف علم بأمر المغارة، وأن علي بابا هو الذي سرق من هذا الكنز كمية كبيرة. ويأتي كبير اللصوص إلى السوق وهو يحمل الجرار الفخارية لكي يبيع الزيت للتجار، وقد اختبأ اللصوص في هذه الجرار، ولكن مرجانة زوجة علي بابا تكتشف الخدعة وتصب الزيت المغلي على رؤوس اللصوص في جرارهم، فيهرب زعيمهم ويخلو الجو لعلي بابا وتفرغ البلد من اللصوص والأشرار.

من البديهي أني لن أناقش مسألة الشخصيات والقصة الفولكلورية التراثية، بل سأتحدث عن العرض الفني، الذي فاجأني بمستواه الرفيع واحتراف الراقصين وإبداع الممثلين. وبالحقيقة لم أستغرب ذلك لأني أعهد كلا من نهاد ومعين فنانَين مبدعَين لا يرضيان بمستوى أقل من الاحتراف.

فالفكرة لهذه الإبداعية راودت معين منذ سنوات، وها هو يحققها على أرض الواقع بأجمل تكوين وأحلى عرض. استطاع معين أن يبرز في سيناريو ومشاهد العمل كله تسلسلا جميلا، متناسقا، متراصا، موضوعيا، مكتملا، سليم المبنى، ممتع المنظر. وسخّر له كافة المقومات والعوامل المساعدة الأخرى كالملابس للمصمم المبدع غصوب سرحان، والموسيقى الرائعة للموسيقي الموهوب بشارة الخل، والديكور للفنان الأصيل أحمد كنعان. واستطاع معين بمعونة نهاد وغدير ابنتهما أن يصمم الحركات والرقصات حتى تعدت مجال الرقص الشعبي، أو الفولكلوري، إلى لوحات في متحف المسرح التعبيري الراقص. وأصبح كل مشهد لوحة فنية، وكل رقصة غنية بالتعبير والحركة التي تخدم المضمون، وتنصب في إطار المشهد العام برمته. لم تكن هناك أي حاجة للغناء، أو ضرورة للحوار والنص المسرحي، بل كان الرقص التعبيري كفيلا بأن يأخذ الجمهور معه في مخاطبة أنيقة، ومحاورة ممتعة، وتسلسل مقنع للأحداث. ورغم أن الجمهور يعرف القصة كأسطورة تراثية إلا أنه يشاهدها من جديد، كمن ينظر إلى لوحة في متحف، ولا يمل نظره، ولا يسأم فكره، ولا تقنط عينه من النظر إلى هذا الجمال المتكون أمامه، وكلما نظر إليها كأنه يراها لأول مرة، فتستولي على مشاعره وتستحوذ على عواطفه.

إن الرقص التعبيري أقرب ما يكون إلى التمثيل الصامت والمعروف بالبانتوميم، ولكنه ليس تمثيلا فقط يروي الممثل من خلاله قصة أو مشهدا، بل الرقص التعبيري عبارة عن رموز حركية وجسدية وحسية وعاطفية تقوم مقام النص والحوار، وتحل محل السرد والرواية، فيفهم المشاهد بالتعبير والرمز ما يرمي إليه الراقص، وما يبغيه. وهذا يعود إلى براعة تصميم الحركة واستغلال جسد الراقص لأداء هذا التعبير وتقديم هذا الرمز. كما يذهب الأمر بنا إلى لغة الإشارة للصم والبكم، فتكفي إشارة بسيطة متفق عليها لكي يفهم المتلقي القصد ويدرك المبتغى.

عندما تكتمل الصورة الراقصة في ذهن المتفرج، وهو يربط جميع خيوطها ويرسم كافة خطوطها التي وضعها له المخرج ومصمم الرقصة، ترسخ في ذهنه وتدعوه إلى التأمل والتفكير والتفاعل، وتثير إعجابه وعواطفه فيحبها، تماما كالعلاقة بين عاشق ومعشوق، بين كل محبين. وعندما يتطابق الفكر الإبداعي مع الرأي الجماهيري تتم فيه عملية الأخذ والعطاء، وتتفاعل فيه مسألة اللقاء المباشر بين الفنان وبين الجمهور، هذا اللقاء الذي يحتم حدوثه تلك اللحظة الآنية والحالة الحاضرة التي تجري أمامه على المسرح.

ولكن لم تندرج الدكتورة كرمة الزعبي الأستاذة في مجال المسرح، ضمن هذا الإطار، فقد استخدمت خبرتها المسرحية في تعبيرها عن الموقف الذي تقدمه، وكأنها تراقص الموسيقى وتفسر بوضوح أكثر للمُشاهد ما تقصده من كل حركة وحركة. وأصبحت كرمة بحضورها على المسرح شخصية مركزية بارزة في المشهد المسرحي، التعبيري الراقص. ومع أنها لا تعتبر راقصة في هذه الفرقة، إلا أن معين استطاع أن يرسم لها الحركات المطلوبة، ويبلور لها الشخصية التي لعبتها، من منطلق أن الممثل قادر على القيام بأي دور يطلب منه، فيتقنه عن صدق وقناعة. كما أنها تعلم علم اليقين أن الممثل الناجح ليس من يؤدي الدور الرئيسي فقط في العمل المسرحي، بل هو من يتقن دوره حتى لو كان أقصر مشهد على المسرح. وهكذا ظهرت كرمة التي مارست التمثيل قبل عشرات السنين، ثم اختصت بدراسة المسرح وتدريسه في المعاهد العليا، وها هي تعود إلى المسرح كممثلة تعبيرية تساند الفرقة والراقصين والقصة وتدعم الجو العام وتضيف إليه رونقا تكميليا وجمالا تعبيريا. ونجح معين فعلا بانتقاء كرمة ليسند إليها هذا الدور المميز، وأفلح باستغلال طاقاتها المسرحية وقدراتها التعبيرية لخدمة المسرحية التعبيرية الراقصة. ومن ناحية ثانية فقد تمكن معين بإخراجه لهذا العمل أن يعيد كرمة إلى المسرح ليس كممثلة فحسب بل كراقصة.

والفرقة بكامل أعضائها، الراقصين والراقصات، فقد أبدعوا بحركاتهم المميزة، ودقة أدائهم وتبليغهم للرسالة التي قدموها بمهارة وخبرة وسيطرة، وكانوا طوع بنان معين ونهاد وغدير، ورهن إشارتهم في إتقان الحركات المشتركة، والمعاني الجماعية، والرقص بتعبير صادق وحس مرهف، فالحركة واحدة والإيقاع مشترك، والاندفاع جارف، والتناغم عارم. ومن الراقصين الذين لفتوا الانتباه، وكان حضورهم واضحا على المسرح الراقص محمد هادية الذي لعب دور علي بابا، وأما محمد حامد الذي لعب دور قاسم فقد أتقن أداءه وظهر مرتبكا كما يتطلب دوره، إن كان ذلك تلقائيا أو مقصودا، فكلا الحالين خدمت الصورة. ومن أبرز الراقصين أو الراقصات اللواتي ظهرن على المسرح كانت غدير ابنة معين ونهاد، التي ساهمت بعدة أمور لإنجاح هذا العمل، فأولا إنها راقصة من الطراز الأول، وهي راقصة قديرة بحركاتها التعبيرية، وليونة جسمها، وتطويع حركاتها لخدمة اللوحة التي تؤديها. وثانيا مساهمتها الفعالة في تصميم الحركات للراقصين والراقصات. ويبدو أن غدير التي ترقص بملامحها أيضا، وليس بحركاتها فقط، أضفت رونقا وحيوية ومكانة لكل حركة ولكل تعبير. واستطاعت أن تنقل هذه الحيوية لسائر الراقصين.

ومما أبهرني وزادني إعجابا أن عدد هؤلاء الراقصين كان لافتا للغاية، وتمنيت أن تظهر هذه الفرقة الكبيرة وتقدم أعمالها العظيمة على مسارح أكبر في أنحاء البلاد، وحتى خارج البلاد، لكي يكتمل العرض بعمل فني جميل، وفرقة خبيرة ومحترفة فخمة، وألا ينقص المسرح الضيق من قيمة العمل الضخم. فإن هذا العرض يشرّف المسارح والصالات الكبرى في العالم، ويستحق أن يعرض كعمل فني لا يقل قيمة وأهمية عن الأعمال المسرحية والفنية العالمية الأخرى، بل أسوة بالمهرجانات الدولية فإن علي بابا والحرامية تستطيع وبجدارة واستحقاق الظهور أمام الجمهور في أكبر القاعات وفي العواصم الفنية في العالم.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com