عندما فكّرت مطوًلا، تقييم كتاب الزميل الكاتب عبد عنبتاوي باكورة إنتاجه "بيان الفردوس المحتمل" ،الذي أهداني إياه مشكورا، اعترف أني دخلت في صراعِ عميقِ مع نفسي وأصابتني حيرة، ووقعت بين نارين، نار الصمت ونار الكلام.

ويبدو أن اختياري الإمكانية الثانية دون علمي اليقين سر هذا الاختيار، الذي لم يكن مبرمجًا او مفهومًا تلقائيا، ربما إيمانا وقناعة بأن للصمت أحيانا ضجيج يطحن عظام الصمت. " نعم للصمت صدى وما هذه الرسائل سوى صدى الصمت في مواجهة صدأ الكلام " ، ص 23 . 

" فما عادت تعنيني انطباعات الآخرين، بقدر ما باتت تؤرقني قناعاتي ... وها أنا أقول لكم صمتًا وان بدا ضجيجا، فأكثر اللحظات قيمة هي لحظات الصمت، وكلما ازدادت الحاجة إلى الكلام ازدادت الرغبة إلى الصمت وتدفقت الضرورة للكتابة..." ، ص 14 .

ولأُسهل على القارئ فهم ما بين السطور، لا بد لي من التطرق إلى الاستهلالية ( كلمة التمهيد) التي لا شك أنها تعبر ولو بغموض، ولغة خياليه غير متبعة اتجاه الكاتب الفريدة من نوعها التي تحمل في طياتها أفكار جنونية ورؤيا غريبة عجيبة، لا تتمشى مع أفكارنا، عاداتنا تقاليدنا وتراثنا تلزم القارئ أن يقف مطولا ليسرح في عالم آخر من الخيال والتأملات قد تصل درجة الجنون والعقل تارةً، والوجود والعدم تارة أخرى، فتأخذه هذه الذكريات والتأملات بعيدًا لا تعرف وطننا ولا جغرافيا ولا مكانا ،وتقف خارج تخوم الزمان وتحاول تجاوز التاريخ، ولا تتناول قضية أو موضوعًا بعينه ، بل تحاول التسلل إلى كل شيء ...

" وقد تكون هذه الأفكار، او بعضها، طموحة حد العزلة، لأنها تكتب وتحيا لأجل قلة الناس، هم في كل مكان وغير موجودين في مكان بعينه، وهم في كل زمان وليس في زمان محدَّد.."

ويقول ص 17

" تساءلت مرةً: لِمَ لا أفعل ما يفعله الآخرون، فأعيش في تناسق مع بيئتي ومجتمعي وعصري وأتقبل، في صمتٍ، " عدم التناسق" ،متجاهلاً إياه باعتبار خطأ صغيرا في الحساب الهائل؟!

فسرعان ما أصابني الصداع، وعدت إلى رشدي، متناسقًا مع ذاتي، متناغما مع عقلي، مبحرا في قلقي، منسجما بتأملاتي.. فقد قررت ارتشاف الحياة، واخترت مساراتها الطبيعية والحقيقية ، حتى آخر قطرة موت ..

ولا أدّعي هنا التميز، ولا اصطنعه، بل لا أحاول ذالك ولا أسعى إليه ، إنما أتدعي ممارسة الحياة التي تستحقها ارض الحياة، لكونها ارض البدايات والنهايات.. وما اكتبه لكم هو ما أقوله لي، ممتطيا صهوة نصّي، مبحرا في سفينة ليست كباقي السفن، فسفينتي لا تبحث عن شواطئ الأمان ولا تطمح لاستقرار الإنسان، لا شغف الوصول ولا فرح الوصول .. فأنا بحر بلا شاطئ حينًا، بلا موانئ أحيانا، وقد أمتطي العدم في سبيل ملامسة المعنى، فليس العدم سوى آخر المعاني وبدايات الغُروب..

يُعتبر هذا الكتاب المُثير، من الكتب القليلة في اللغة العربية، انه أشبه بمعادلات بالغة التعقيد ومشهد وسيناريو غير مألوفين. إذ يقوم الكاتب برحلة تأملات حتى العمق تدُل على مقدرته وآفاقه الواسعة، لا شك انه يعرف ماذا يقول وكيف يقول.

أتمنى للكاتب ابن شفا عمرو البار التوفيق ومزيدا من العطاء ...

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com