عرفت الناصرة كجسد امرأة منذ الطفولة.. عرفتها وردةً جوريةً حين كان الجوري سيد الورد.. عرفتها أيضًا بماءِ الزهر حين كان الزهر فُلًّا بدأ يختفي من البيوت، وياسمينًا كان يملأ شارع النمساوي حتى استحق لقب شارع الياسمين ... كانت رائحة الياسمين في الأمسيات تمتد من دار الحلاق ودار خليف الى نهاية مفخرة دار مسمار... وكنا نواصل العدو من عين العذراء الى عين الماء الجميلة في قرية الرينة في تلك الأيام، فنشرب من هناك، ونرتاح قليلا، ثم نعود ركضًا الى شارع الياسمين وعين العذراء، فنعبُّ من مائها العذب المقدس..

من أيام كنت في الرينة التي امتدت في كل الجهات، وسألت عن العين، فقالت صديقتي دارين طاطور إن العين جفت، وحلت فوقها تقريبا عمارة المجلس المحلي... وفي الناصرة وقفت عند العين أتذكر حينما كان الماءُ يُشرب.

الناصرة طفولتُك، شارع ياسمين عابق في جسد أنثوي طازج، أنت كما من به مَسٌّ بالطفولة تلك. لكنك ستصغي لصوت مزمار، وتشاهد رقصة هي ناصرة الصبا:


"الناصرة بلدنا والرحم نسّامْ
وفيها العطر يرشح منسَّمْ
لنا شلفات ترشح من السَّمْ
قليل اللي انطعن بيها وطاب".

في الأيام الأولى من العام الأول للغربة كنت غض الذاكرة وشهوة الناصرة في ذاكرتي غضة. كنت أذكر الكثير... والآن بعد هذا الغياب صرت أذكر أكثر.

صرت أرى أن من لا يحبُّ لا زهو له و لا حتى خاطر. منذ تلك الأيام وأنا مصاب بالحب، فكأنّ الناصرة هذه، المرض العضال الذي لن تشفى منه ولا تريد الشفاء. لكنك لست وحدك؛ كذا الأمر مع صديقك نبيل عزام... ففي كل مرة تدعوه لرفقتك لزيارة أرض مصابك، ستجده فرحا بالزيارة ويزهو خاطره، كذا غيره ممن تعرف ومن لا تعرف.

هل الناصرة غرام لا يمكن اعتزاله، وإن اشتهى الشعراء الآخرون اعتزال الغرام وحرضوك في قصائدهم على أن تعتزل الناصرة؛ هذه التي وجودها كما السيل الجارف لا تتبين أنه الماء، ولا تتمكن من إرواء عطشك منه.. أنت المجروف به، فيه، لا تتمكن منه، فقد تمكن منكَ فيكَ ولا تتبيّنُهُ.
أين ما وليت قلبك ثمة الناصرة، أيُّ سماء هذه التي أطبقت على أرضك ولن تتمكن أن تحل عنها، حلت فيك كالأكسجين، شهيقُكَ تَشْرُقُ بهِ.

الناصرة حديقة أولمبية زرعها فارون من جنتهم.. في خصر جبل القفزة زرعوا حديقة الأمل هذه : سنعود لجنةٍ أضعناها . هكذا كأنّ كلَّ مَنْ مِنَ الناصرة هو على وشك الرحيل، لذا بيوتهم باب مشرع لمغادرة ما، ولو الى حين... وفي الأزقة القديمة عيون ترقب كل غريب لتحسن وفادته. فمن يريد الناصرة عليه ألا يخفي شيئا.. لأن أهلها الأصلاء لا يخفون شيئا. ستعرف منها أن لا تخفي ما ألمّ بك، وأن لا تتخفي عنها، ستكون كما فضيحة تمشي على رجلين، سيشاع بين الناس حبك لها ومقتك لهذا الحب، كما كل شغوف، وستكره ما تحب، أليس من الحب ما قتل؟

فما وليتها وجهي إلا وأشاحت.. هي مدينة ومستقر مفرد في صحراء من تراب وصخر يقوس ظهرها.. مدينة مندسة بين واد وجبل، فيها الماء والخضرة والوجه الحسن، وكل قادم لم يرَ حسنا، كأن كل غريبٍ غازٍ. تظل في عراك معها، لا ترخي لك السبيل كي تذهب عنها وقد ذهبتْ بعقلك، كما لا تشدك إليها لأنها تعيش في تلابيبك وتعشش في قلبك.

ناصرتك التي نسجتها من عطر الياسمين لن يوجد إلا في مخيالك. ومقامها في نفسك عالٍ كما منقار يشق سماء غائمة... لذا كل نصراويِ يظل نصراويًا أينما حل‘ فليس مثلها شيء في الدنيا.. زنارها ياسمين وعباءتها حبقٌ وجوريٌّ وريحان، وريقها زهرٌ، أو كما تحب أن تكون، هي ليست لك لأنك لست لهذا كُفْئًا.

هي غرناطةُ خيال، وقد غدتْ غرناطةَ تناءٍ عن تضاريس القلب بعد أن صيرها التاريخ جغرافيةً للفقد. ستعجنك،ستعجنك في خبز ياسمينها، في خبز حبقها، ثم في ريقك تذوب؛ الناصرة زوال الغالي.

أنت مصاب ولا حرج . في الناصرة ليس لك مطرح.. ألست مغتربا؟ في أفعالك شطط العشاق الأُول، تهيم في كل واد والناصرة وادٍ واحدٌ أَحَد . فإن شَرَّع لك الأصدقاءُ أبواب بيوتهم فعنك باب الناصرة موارب، وإن شدك إليها الشعر فالشعراء يتبعهم الضالون: أيها الضال ناصرتك ترفض أن تكون ضالتك. لقد أحكمت قفل سورها... وإن لم تر الباب الصلد المغلق، لا تغتم؛ لست وحدك. تصدك الناصرة وبها مقامك ومن شعرها غزلت شعرك؛ الناصرة ليست سهلا يحط البدوي فيه الرحال، أنت صرت غريبًا، وكل غريبٍ غازٍ، وإن تغزلت فيها، الناصرة لن تغزلك في شعرها ولن تطردك منها، كأنها تقول: لم أكرهك ولكنني لم أحبك فلا تغتم.. أعطيتك ما لم تعطِ ؛ أعطيتك الشعر، حمّيتُ كبدك في تَنّوري، وجعلت لك من الشعر بردًا وسلامًا، تعويذة تقيك ملامة النفس.

فلا تكن جاحدًا وحلَّ عن سمائي.

كذا ما قالته الناصرة لي، فنزعت ضرس عقلي بعد بعادي، فصرت غريب الدار.
كأنها تقول: أيها الشعراء يتبعكم الغاوون ولست بغاوية. وإن شابَ الشعر منها ظلت تقول:
أيها الشعراء مِغزلُ الشِّعر مِغزلي، والغزل كما خيوط القمر الفضية يضيعها النهار، وفي شَعري خيوط من ذهب.. تذكار لزمان ولّى.. لا ألوم أحدًا عمّا جرى لي، فما جرى من الزمان ومني .

أيها الشعراء فإن طردتكم عني فإنكم شعراء مني.
في قلب الناصرة وجع السكوت.. كأنه وجع المسكوت عنه.. عشاقها مرهقون ينتفضون مع كل واردة وينفضّون عنها، ولكل منفضة ينفرون، أو كما تراهم في كل وادٍ يهيمون.

هل الناصرة كائن مهجور؟

تقول الأسطورة: عند شاطئ زاهٍ نزل حفنة من التائهين جاءوا من بلاد اليونان، دخلوا الوادي، وجدوا شلالا من ماء زلال، طاب مستقرهم، ناموا في دعة، أفاقوا في غدوتهم ولم يجدوا للمكان مكانا.. المكان الذي أحبوا تاه عنهم، التقوا رحالة من أهل البلاد طلبوا منهم مقابل مالٍ جَمٍّ أن يدلوهم الى ما تاه منهم.. أوصلهم بعض الرحل إلى المكان حيث ثمة خُرم في سعة السماء يدلق ماء، لكنه ليس مكانهم الذي تاه عنهم بعد أن تاهوا عن بلادهم.. استقروا غصبًا، وبقي المكان الذي تاه عنهم مكان الحلم الذي يتبدد كلما حلموا به ... كان ذلك المكان ما سيدعى لاحقا الناصرة؛ في أيامي اللاحقة سأعرفه: الناصرة جغرافية الفقد.

سأقول لك ما لا تحب: الناصرة ليست كائنَ المهجور، أو كائنَ المفقود، ولا مدينةَ الحلم، هي امرأة ناضجة تعرف ما تريد، وتحب ما تحب، أو كما جاء في دفتر الطفولة: إن أرادت غصبًا تريد.. تُغوي ولا أحد يغويها ومرادُها بعيد.

مدينة تنأى عن المدن وليست من القرى، تسكن الوادي وقعر الصحن وكف الجبل كما لو كانت في قبضة عفريت، فيها قلق امرأة تنصت للزمان كمن لا ينصت لأحد، وبها شغف للخباء كي تتخبأ عن الزمان:

أيها الزمان يا مصاص نخاعِ الروح، ألوذُ منك، بدّدك العشقُ وبدَّدتني هي كأن العشقَ ماءُ السحرةِ نشربه كي نتبدد.
كأنها مدينة النسيان والضحك؛ نسيت الزمان فضحك منها عليها.


الناصرة الضحوك كَدَّرَها الزمانُ ووهنَ القلبُ منها.

 

أحببت الخبر ؟ شارك اصحابك
استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com