لُغتنا العربية في خطرٍ. إن إدخالَ الكلماتِ العبريةِ لمُحادثاتنا بهذا الزّخمِ يدل على عُزوفنا عن الثوابتِ القوميةِ وعلى تنازلنا عن تُراثنا وهويّتنا الجماعية. إذا استمرّ الوضع القائم فهنالك احتمال أن تهيمن حضارة الأكثرية على حضارة الأقلية. ان مِنهاج اللغة العربية في مدارسنا بحاجة الى مراجعة وكذلك طريقة التعليم

اعذروني على المبالغة فأنا ضد المبالغة وأومن بأن الكلمات ينبغي ان تأتي على قدر الحالة الموصوفة, لكن ما سأدلي به ليس "مبالغة من أجل المبالغة" وانما من أجل قرع ناقوس الخطر على قضية حرجة وهامة تخصّ المجتمع العربي في اسرائيل. بعد التفكير العميق والمتابعة والمراجعة والمقارنة وصلت الى نتيجة شبه مؤكّدة بأن "النكبة" الثقافية التربوية التي ألمّت بنا ونعيشها كل يوم لا تقلّ وطأة عن نكبة سنة 1948 حين طُردَ أهلنا وسُلبت اراضينا وبيوتنا وتحوّلنا الى أقلية مضطهدة ومستهدفة. النكبة إياها حصلت في الماضي وهناك من "عربنا في الداخل" يذكرها وهنالك من نسيها وهنالك من قرّر تجاهلها والمُضي قُدما حفاظا على لقمة العيش. اما النكبة الثقافية فهي أشدّ فتكا لأنها أشبه بجرحٍ داخلي ينزف دون انقطاع. النكبة الثقافية هي احدى تداعيات النكبة الجيوسياسية التي حصلت لنا وتتلخّص بقطع خيط تواصلنا مع تراثنا العريق ولغتنا الجميلة وتبديد اعتزازنا بتاريخنا وتشويش انتمائنا القومي كل ذلك من اجل التعايش مع النظام الاسرائيلي.

لغتنا العربية في "خطر" وقد أجزنا "مضاجعتها" مع اللغة العبرية لتلِد لنا اولادا مرقّطين لا هم بيضٌ ولا سود. يا للهول, كيف تحوّلت لغتنا العربية الأصيلة الى لغة هجينة تستقبل المفردات العبرية برحابة صدر بحجة "التنور" و "الانفتاح". يا للهول كيف تحوّلت لغتنا الجميلة الى لغة نادرة لا يملكها إلا قلّة من اصحاب القلم بعدما كانت لغة عادية تسود بين المثقفين وكبار السنّ ورجال الدين وغيرهم. لقد بتنا نُدخل كلمة عبرية على كل كلمة ثالثة نتفوّه بها, وعبثا تحاول إقناع عربنا بالامتناع عن ذلك دون جدوى ويستغربون من حدتك ومن تصميمك على استعمال الكلمات العربية بدل العبرية ويلوّحون لك بأن تكفّ عن "التحاذق" و "الوعظ" وأن تدعهم وشأنهم, هذا طبعا إن لم يسخروا منك ومن طلبك.

إن إدخال الكلمات العبرية لمحادثاتنا بهذا الزخم يدل على عزوفنا عن الثوابت القومية التي يقوم عليها تراثنا وهويتنا الجماعية والفردية, وإذا استمرت هذه الحالة سنجد أنفسنا مسلوبي الهوية ومنسلخين عن شعبنا وهذا أمر في غاية الخطورة. لو سألت أحدهم لماذا تقول كلمة معينة بالعبرية ألا تدرك ما هي الموازية لها في اللغة العربية فيجيبك على الفور بأنه يعرف, لكن هكذا أسهل أو هكذا تعوّد. إذاً صاحبنا لم يكن مضطرا على استعمال المفردات العبرية وإنما قام بذلك "عن سبق إصرار", وهذا مقلق ويستدعي التوقف والبحث عن الأسباب التي أدّت الى ذلك.

ليس الأقصى لوحده في خطر وانما لغتنا العربية أيضا في خطر وينبغي منا أخذ الحيطة لدرئه عنا قبل أن يصبح الوقت متأخرا. اللغة العربية من أجمل وأغنى اللغات في العالم قاطبة ولكل كلمة في اللغة العربية يوجد العديد من المرادفات فلماذا نتجاهل ذلك ونستعمل العبرية؟ أعذروني, أليس هذا نفاقا وتملقا للمؤسسة الإسرائيلية؟ أليس هذا ضياعا وتنازلا وخنوعا لحضارات أخرى على حساب حضارتنا وثقافتنا؟ ألا يعكس ذلك انعداما للوعي بدور اللغة في صقل شخصية الإنسان العربي الواثق بنفسه والمعتز بأصله؟ إن من يعتبر ذلك أمرا عبثيا او عديم الشأن فهذا شأنه لكن إذا كثُرَ أمثاله فالطامة الكبرى آتية لا محالة.

المسؤول الأول عن ترسيخ اللغة العربية في الأذهان هم الأهل طبعا. للأهل دور هام في تعزيز اللغة العربية وترغيب الأولاد بالتحدث باللغة العربية والإشارة الى الكلمة او العبارة الموازية باللغة العربية. ان جلب الصحف العربية للبيت وقراءة المجلات والكتب وحضور البرامج التلفزيونية العربية ونشرات الأخبار له الدور الأكبر في إغناء مخيلة الاولاد بالمفردات العربية. فما المانع بأن تستوقف ابنك عندما يستعمل كلمات عبرية وتشير له أن "الرمزور" هو "الشارة الضوئية" وأن الـ "معليت" هي "المصعد" وأن "الطوفِس" هو "الاستمارة"؟ هل توجد صعوبة في ذلك؟! ما المانع أيضا تكون واجهة الهاتف الخليوي الذي بحوزتنا باللغة العربية وكذلك الاسماء والارقام والرسائل النصية وأيضا لغة الحاسوب الأساسية.

المسؤول الثاني, والذي لا يقل أهمية هو المدرسة والجهاز التربوي. ان منهاج اللغة العربية في المدارس بحاجة الى مراجعة وكذلك طريقة التعليم. لماذا لا يحبّ اولادنا اللغة العربية ويعتبرونها صعبة ومعقّدة؟ من هو المسؤول عن هذا الموقف "العدائي" للغة العربية من قبل تلاميذنا؟ ولماذا يهتم طلابنا بلغات أخرى؟ ولماذا يحصلون على علامات أفضل في اللغات الأخرى؟ ان أسهل ما يمكن ان نقوم بها هو اتهام الطلاب أنفسهم او اتهام العولمة او اتهام سياسة التمييز. أضف الى ذلك, هنالك العديد من النشاطات التربوية التي يمكن ان يقوم بها الجهاز التربوي من أجل انعاش اللغة العربية كالندوات الأدبية والمهرجانات الشعرية والمسابقات الابداعية وغيرها. ليت معلمونا يقومون باستعمال اللغة العربية الفصحى في شرح الدروس والتخاطب مع الطلاب والتوقف قدر الإمكان عند كلمات جديدة دخلت على اللغة وشرحها للطلاب.

لقد شاءت الأقدار أن نصبح "أقلية" في وطننا, وهنالك احتمال وارد أن تهيمن حضارة وثقافة ولغة الأكثرية على حضارة وثقافة ولغة الأقلية. ان اللامبالاة والتخلي عن لغتنا العربية الأصيلة قد يسارعان في هذه التدهور الخطير. إن ضياع اللغة ليس أقل وطأة من ضياع الأراضي والبيوت والممتلكات. ضياع اللغة يؤدي الى ضياع الهوية وإن ضاعت الهوية فقل على الأرض السلام. 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com