«المصدر الرئيسيّ للتّشريع هو الشريعة الإسلاميّة، وتشمل أدلّتها الكليّة، وقواعدها الأصوليّة والفقهيّة، ومصادرها المعتبرَة، في مذاهب أهل السّنة والجماعة.»

إنّ المادّة الواردة أعلاه ليست جزءًا من دستور حزب دينيّ شديد الأيديولوجيّة، وإنّما هي المادة الرئيسيّة في دستور مصر الّذي اُقرّ بعد ثورة 25 يناير! والّتي أُريدَ لها أن تكون ديمقراطيّة وتعدديّة وممثّلة حقيقيّة للمصريّين، كلّهم! وهذا الدستور أجاز للرّئيس مرسي صلاحيّات تجاوزت تلك الّتي تمتّع بها الرئيس المخلوع حسني مبارك، خاصّةً في أولويّة الرئيس وصلاحيّاته الأعلى من صلاحيّات القضاء! وهو المجال الّذي اعتزّ المصريّون باستقلاله ردحًا طويلًا من الزّمن.. إنّ إقرار هذا الدّستور الّذي مثّل «طغيان الأكثريّة»، هو «خط توزيع المياه السياسيّ» الّذي شقّ مسارًا خاصًا أفضى بعد شهور إلى خروج ملايين النّاس مطالبة برحيل الرئيس محمّد مرسي في 30 حَزيران.

سببٌ حقيقيّ آخر لخروج الملايين هو أنّ الرّئيس مرسي مارس سياسة خارجيّة مُطابقة لسياسة الرئيس مبارك حذو النّعل بالنّعل، خاصّةً تجاه أمريكا وإسرائيل. فبماذا اختلف مرسي عن مبارك بالعلاقات المصريّة - الإسرائيليّة؟! وإذا أخذنا «غزّة» كنقطة تماس مركَزيّة بالعلاقات المصريّة - الإسرائيليّة، لوجدنا أنّ معاناة أهل غزّة قد زادت في عهد رئاسة مرسي، من خلال إغلاق المعابر وهدم الأنفاق، وهو ما لم يجرؤ على فعله النّظام السّابق. وبهذا فالرّئيس مرسى كان بعيدًا عن وعي ووجدان شعبه الّذي يبحث عن الكرامة، بعد أن أصبحت «أم الدّنيا» متذلّلة ومتذيّلة منذ منتصف السّبعينيّات.

صحيح أنّ الرئيس محمّد مرسي - ولا أيّ رئيس غيره - ما كان ليحلّ قسطًا كبيرًا من مشاكل مصر البنيويّة، خاصّةً بالاقتصاد. إلّا أنّ المصريّين لم يروا أفقًا ممثّلًا بخطّة عمليّة يدعوهم الرّئيس للسّير وفقها من أجل تخليص الاقتصاد المصريّ على مراحل قصيرة أو طويلة المدى. بالعكس تمامًا، فالمصريّون، شديدو الاعتزاز بمصريّتهم، خاصّةً بعد ثورة 25 يناير، رأوا أنّ بلدهم – أم الدّنيا، وفق تعبيرهم الفخور - تقوم على شَحدة القروض الماليّة؛ فطلبت المال من قطر (الّتي تعاني من مرض الـ«مچلومانيا») واستجدت القروض من تركيا، واستعطفت دعم موسكو بقرض ماليّ ضخم.. وهنا بدت مصر في عهد مرسي دولة تَقوم على الشّحدة. وحتّى هذا من الممكن أن يكون مقبولًا على المصريّين في مرحلة حرجة، وكذلك كانوا سيحتملون نقص الماء والوقود وغيرها من الأولويات، شرط انطلاقة مشروع وطني كفاحيّ ونهضويّ، ومشروع يبنى أُفقًا اقتصاديّـًا ليجعل من هذه الظروف حالة مؤقّتة، لا مُستديمة.

انُتخب الرئيس محمّد مرسي ديمقراطيّـًا وهو شرعيّ بهذا تمامًا، ولكنّ الرئيس مرسي ارتكب أخطاءً قاتلة، ينبع أساسها من أنّه لم يعِ معنى أنّه رئيس لكلّ المصريّين، وهذا كان واجبًا عليه كرئيس مصر أوّلًا، وكرئيس مُنتخب برُبع أصوات المصوّتين فقط (حصل على 51% من 50% من الشّعب المصريّ)؛ كما أنّ جزءًا كبيرًا ونوعيًا من هذا الرُبع الّذي صوّت له كان قد صوّت رفضًا لأحمد شفيق الّذي رأوا به امتدادًا لنظام مبارك؛ وعندما أقول جزءًا نوعيّـًا أقصد معظم المفكّرين الّذين قادوا الآن الحملة ضدّه! لقد نضح كلّ موقف وخطاب لمرسي بالأيديولوجيّة الإخوانيّة؛ كان جلوسه في مؤتمر الأمّة المصريّة إلى جانب شيوخ يحرّضون مذهبيّـًا على النّظام السّوري مثالًا كلاسيكيّـًا لما أقصد، وفور انتهاء الخطاب قام ناشطون إسلاميّون بالتهجّم على بعض الشّيعة المصريّين، وقتلوا أحدهم! وبرزت أولويّاته في أخوَنة الدّولة والمجتمع، وليس بناء دولة مدنيّة عصريّة تقوم على المواطنة والتّنمية والحريّة، وهو ما أدّى إلى تشكيل جبهة الإنقاذ الّتي تصدّت لسياساته في الشّارع، قبل البرلمان.
إنّ خطابَيْ الرئيس مرسي الأخيرَيْن كانا بائِسيْن، معنًى وأداء، فبدلًا من أن يفهم معنى توقيع الملايين ضدّه، بنسبة فاقت نسبة التّصويت له، وخروج الملايين إلى الشّوارع، فيحاول إيجاد مخرج مُحرج لمناوئيه نحو اقتراح استفتاء شعبيّ خلال شهر واحد، وغيرها من الاقتراحات الّتي تُعيد السّلطة للشّعب. وربّما كانت هذه الاقتراحات لا تُجدي مع المتظاهرين، ولكنّها - بالتّأكيد - تطرح تحدّيًا حقيقيًا يوسّع دائرة التّعاطف معه، ولكنّه اختار موقفًا صنميّـًا ومتسلحًا بشرعيّة سبقت التطوّرات الشّعبيّة الأخيرة الّتي نسخت ما قبلها.. وكان هذا خطأه الأخير.. والأخطر!!

كنت أفضّل أن يتأخّر بيان العسكر الأوّل والثّاني، أي أن يأخذ الامتداد الشّعبي مداه، وإن كان يستمدّ شرعيّته الشّعبيّة من توقيع الملايين ونزولهم إلى الميادين، ودعمهم بشكل كامل من قبل الأزهر، الكنيسة، القضاء، الشّرطة وائتلاف شباب الثّورة، أحد المركّبات المركَزيّة لثورة الملايين. أردتّ له أن يتأخّر لأنّني كنت واثقًا أنّ الجماهير حسمت الموقف بأغلبيّتها السّاحقة ضدّ حكم الإخوان، وأردت أن يبرز ذلك جليّـًا بأكبر قدر، لأنّ هنالك عُقَدًا بالتّاريخ المعاصر في العلاقة بين الحكم والإسلاميّين، وذلك منذ فوزهم بانتخابات الجزائر 1991، والتّشريعيّة الفِلَسطينيّة 2006.. ولكن الجهات الأعلم بالتّفاصيل رأت أنّ أيّ تأخّر كان سيؤدّي إلى مذابح، إمّا بين طرفَيْ المعادلة الشّعبيّة، وإمّا بزحف الملايين إلى قصر الرئاسة..

هنالك سؤال أرى أنّه قد حُسم في العشرين سنة الأخيرة، وهو أنّ الشّعار المركَزيّ للحركات الإسلاميّة «الإسلام هو الحلّ» ليس بأكثر من شعار فضفاض لا يقدّم أيّ جواب عمليّ، خاصّةً أنّ الإسلاميين حكموا بأشكال مختلفة في مصر وتونس والسّودان وأفغانستان والسّعودية وتركيا وإيران.. وهناك من فشل كليّـًا مثل السّودان، وهناك من يتعامل مع الإمبرياليّة جِهارًا، مثل السّعوديّة، وهناك ما كان تابعًا للعصور ما قبل الوسطى مثل أفغانستان، وهناك من تناوئه الحركات الإسلاميّة (بادّعاء المذهبيّة البائس، كالسّنة والشّيعة!) أكثر مما يناوئه العلمانيّون، مثل إيران.. أمّا تركيا فهي مثال لنظام ثابت، طالما هو ديمقراطيّ وتعدديّ؛ أمّا أثر محاولات أردوغان الأخيرة لإعادة إنتاج المؤسّسات وفق رؤية حزبه فتقابله مظاهرات هي الأولى من نوعها في السّنوات الأخيرة! وأرجو من التّجربة المصريّة أن تعلّم العقلاء من الإسلاميّين حول معنى تسييس الدّين وتحزيبه، فبإسم الإسلام واصلت مصر علاقتها مع تل أبيب الّتي تحتل القدس والأقصى والشّعب الفِلَسطينيّ، وواصلت علاقتها الحميميّة مع أمريكا، أكبر مجرم بحقّ المسلمين والبشريّة، وقادت سياسة اقتصادية أجاعت النّاس وأهانتها... نحن نعلم أنّ الدّين لا يتحمّل مسؤوليّة مَن يقومون بكلّ هذا باسمه، ولكن ألا يدرك اليوم الإسلاميّون أيّة إساءة يدمغوها بالدّين؟!

تأثير العالم العربي علينا، نحن البقية الباقية..

لا يوجد شيء أثّر على أحداثنا النّضاليّة أكثر من قضايا الشّعب الفِلَسطينيّ والعالم العربيّ! ففي الخمسينيات أقام وطنيّو شعبنا الجبهة الشّعبية الّتي ضمّت الشّيوعيّين والقوميّين، وكان الخلاف بين جمال عبد النّاصر في مصر وعبد الكريم قاسم في العراق (1959) كفيلًا بفضّ الوحدة في بلادنا! وكان يكفي خطأ مؤقّت للقائد الاستثنائي عبد النّاصر ضدّ الشّيوعيّين لتنخفض مقاعد «الكتلة الشيوعيّة» من ستّة مقاعد إلى ثلاثة، غالبيّة مصوّتيها من اليهود! وقد كانت أكبر مظاهرات شعبنا بمناسبة صبرا وشاتيلا (82) إلى مظاهرة النّاصرة دعمًا للانتفاضة (88) والمظاهرات في أعقاب المجازر: عيون قارة (أيار 1990) والمسجد الأقصى (تشرين أول 1990) والخليل (1994) حتى «يوم القدس والأقصى» (2000)، وكانت أكبر مظاهرات شعبنا على الإطلاق أثناء العدوان الإسرائيليّ على غزّة (2009)...

نستثني الحدث الأهم في تاريخ الجماهير، وهو يوم الأرض، حيث إنّ طابعه كان محليّـًا بقوّة، ولكن هذا الحدث المحليّ تأثّر أيضًا بصعود نجم منظّمة التّحرير الفِلَسطينيّة وبحرب أكتوبر وعبور قناة السّويس (1973)..

القضيّة ليست مجرّد أحداث بارزة، وإنّما هي صياغة هُويّة، فمع المدّ النّاصري كانت هنالك هُويّة واحدة طاغية وهي الهُويّة العربيّة، ومحمود درويش نطق بلسان الجميع حين صدح: «سجّل أنا عربي»، ولم يقل «سجّل أنا فِلَسطينيّ» ولا سجّل أنا من هذا الدّين أو ذاك، وفقط بعد النّكسة التّاريخيّة للمشروع القوميّ، بعد هزيمة حَزيران (1967) وصعود الهُويّة الإقليميّة، وأخصّ الفِلَسطينيّة الممثّلة بمنظّمة التّحرير، تصاعدت الهُويّة الفِلَسطينيّة لدينا باتّجاه مثابر، وكذلك تصاعدت الهُويّة الإسلاميّة الّتي عُزّزت أثر الفراغ الّذي أحدثه فشل المشاريع القوميّة والإقليميّة..

ما حدث بمصر سيشكّل انعطافًا يؤثّر على هيمنة ومكانة الأحزاب والحركات الفاعلة بين جماهيرنا!

النّقب

ما يحدث في العالم العربي يؤثّر علينا مباشرةً وبقوّة، كما بيَّنتُ أعلاه. وما يحدث الآن في مصر هو من العلامات الحادّة في العصر الحديث، وسيؤثّر بحدّة على تفاعل الحركات السياسيّة وعلى العلاقة فيما بينها.. ورغم اهتمامنا الكبير والطّبيعيّ بما يحدث بمصر، ورغم التّوتر بالعلاقة بين الأحزاب، فواجبنا الوطنيّ التّأكيد على أهميّة الوحدة الكفاحيّة في مواجهة أخطر مخطط يواجه جماهيرنا بالسّنوات الأخيرة، وهو مخطّط «براڤر» الّذي يريد مصادرة أكثر من نصف مليون دونم أرض من النّقب.

لفت انتباهي أنّه بين ألوف الكتابات على الـ«فيسبوك»، خلال الأسبوع الأخير، لم يحظَ النّقب والإضراب العامّ سوى بالنّزر اليسير جدًا من الكتابات على الحائط الافتراضيّ، أمّا بالشّارع الحقيقيّ فلا يوجد أيّ نشاط يُذكر! وهذا الأمر يشكّل خطرًا فادحًا على مستوى الجهوزيّة الكفاحيّة لجماهيرنا.

لنذوّت جميعنا أنّ النّقب هو نصف وطننا، وبه احتياط الأرض الوحيد الّذي تبقّى لنا بعد «تسونامي» المصادرات في الجليل والمثّلث في العقود الثّلاث الأولى لقيام إسرائيل.. المخطّط كارثيّ على مستوى تاريخيّ، وواجبنا الوطنيّ جميعًا – ومن كلّ الأطراف المتناقضة في رؤية القضايا الإقليميّة - العمل معًا بقوّة لإنجاح الإضراب الّذي أعلنته لجنة المتابعة يوم 15 تمّوز الجاري.

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com