في بلادنا أَصبحت الفَتوى بشاقل، وعذراً من رجال الدين الفُقهاء، في بلادنا أَصبحَ الجاهلُ عالماً في الدين، والسارقُ حارساً، والعاهرُ شريفاً، والصادق كاذباً والكاذب صادقاً والخائنُ يُفتي للجهاد، وذاكَ المريضُ في نفسهِ يقول عن فتياتنا في سن العاشرة وما دون، خلاعة ثلاث مرات من على منبر كانَ الواقفونَ عليهِ في غابر الأزمان رجالُ في الميدان وفي العلم والحرب والحياة ولم يَعتبروا صوتَ المرأة عَورةً، لم تُشاهد، ونُقِلَ لكَ على لسانِ من لم يعرف معنى التربية لتقول ما تقول، سَفيهاً قَولكَ ورأيكَ أنتَ حرٌ فيه.
وما زلنا، نحن العرب، وبحق، نتغنّى بالعصر الذهبي في ظل الدولة الاسلامية، وكيف أنّنا في ذلكَ الزمان إستطعنا أَن نُصدّر إلى العالم صناعة الحضارة والتقدم العلمي وما زلنا نُردّد رواية تلك الهديّة التي أرسلها الخليفة العَباسي هارون الرشيد إلى شارلمان مَلك الفرنجة (فرنسا)، وكانت عبارة عن ساعة ضَخمة تتحرك بواسطة قوة مائية وعند تمام كل ساعة يسقُط منها عَدد من الكرات المعدنية بعددِ الساعات فوق قاعدة نُحاسية فيُسمع لها رنين موسيقى وينتشر في أنحاء القَصر، وفي نَفس الوَقت يُفتح باب من الأبواب الاثنا عشر ويخرج فارس يدور حول الساعة ثم يعود من حيثُ خَرج، وعندَ الساعة الثانية عشر يخرج من داخل الساعة الضخمة إثنا عشر فارساً مرة واحدة يدورون دورة كاملة ويعودون ليدخلوا من الأبواب فتُغلق خلفَهُم، هذا ما روتهُ المراجع التاريخية عن هذه الهدية، وللرواية وجهان،إندهشَ ملك الفرنجة ومن حولَهُ من هذه الآلة العجيبة التي تحسب الزَمن، ولكن رُهبان القَصر وهم رجال الدين "الحاكمين بأمر الله على الأرض" لم يستغربوا ويندهشوا فقط، بل أعلنوا أن هناك شياطين داخل هذه الساعة، فتربّصوا لها ولَهُم ليلاً وانهالوا عليها تحطيماً بالبَلطات والأدوات الحادّة الثقيلة ولكنَّهم لم يجدوا بداخلها شيئاً غيرَ دُمى الفُرسان وخيبتهُم.
وهل نحنُ بحاجة اليوم لنُردّد ماذا فَعل العَرب في صَدر الاسلام، كيفَ أزاحَ الغمامة السوداء من على رؤوس أمّة الصحراء وحوّلَ العمامة السوداء إلى رأس متنوّر ناشط في الحركة الانسانية، أنهى ومَنَع وأد البنات طوّر علوم الرياضيات وعلم الاجتماع وعلم الأحياء، ترجم اليونان والرومان من فلسفة وأدب وكل ما يتعلق بالحرف المكتوب كانَ محط إهتمام العرب والمسلمين، وخرجت المرأة إلى جانب الرجل في الحرب وفي السوق، في السفر وفي قصور الخلفاء كانت الفُنون عِماداً يومياً للحياة.. وكانت أوروبا تنام في سُباتٍ عميق، تنخرُ في بلدانها وشعوبها حروب القبائل والعائلات ورجال الدين يأكلونَ لَحم الفُقراء ويطعِمونَ ما تبقى للنُبلاء، أمراء الحرب.
مئات السنين مرّت وانقلبت الآية، وأصبحت أُمةُ إقرأ لا تقرأ إلاّ فتاوى الجَهل والتخلّف والتكفير والتعهير، إنتفضت أوروبا على جَهلها وجُهّالها، حاربَت شُعوبها كل دُعاة الظلام وتصدّت لكنيسَتها على قاعدة أنّ الله في السماء والعبادة لهُ فقط، وكانَ ربيع الشعوب مقدّمة لصُنع تغيير في قادم رفعَ أوروبا وشعوبها إلى مرتبة ولا شَك أَفضل بما لا يُقاس عن مرحلة العصور الوسطى.
ذهبَت الغَمامة تلك من سَماءِ فَرنسا وأمطَرت في أَرض العرب، غادرَ قطار التخلّف بلادَ الغال إلى بلاد الرافدينَ، هربَ طاعون الفكر من أمستردام وروما وأَثينا ولجأَ مُستوطناً في بغداد وقاهرة النيل وبيروت الحضارات، لَبسنا العَمامة غَمامة، وأصبحَ العلمِ إستهلاكاً والفَن كُفراً والأدبُ إلحاداً، وغدا الانتحارُ فُقراً وعَذاباً أملاً في بلادٍ تأكل ممّا لا تزرع، تلبس مما لا تَصنع، بلادٌ لو أرادَ أصحابها لأَطعموا العالم قمحاً وتمراً وحليباً، ولكنّهم يطعمون شُعوبها دماً وسلاحاً ودماراً وتمزيقاً، والأهم في وليمة العرب، الجهالة.
وأعتقد أنّ العِلم ليسَ أن تتخرّج من الجامعات الاوروبية ولا أن تحصل على أعلى المراتب العلمية فقط، فإن كنتَ كذلك وتحمل في عقلكَ "كنزاً" من التخلّف الاجتماعي فأنتَ حتماً عبء على هذا العِلمِ لأنك لن تستطيع أن تنتقل بهِ إلى أي درجة في سلّم الحضارة والانسانية، لا بل وبالعكس، فأنتَ حتماً سوف تُلبسُ هذا العلم عَمامة أشدُّ قتامة.
عُذراً منكُم يا فقهاء الأُمة، لماذا هذا الصمت منكُم على سُفهاء إعتقدوا أنّ الشيخ لحية ولباسٌ أفغاني، وهي درجة من العلم في الأصول، عذراً أصحاب الرأي في هذه الأُمة، الساكت عن الحق شيطان أخرس، وما هذا السكوت منكُم على إيقاظ الفتنة، وقد لعنَ الله من أيقظها، أصراعُنا الآن مذاهب وطوائف وملل؟ أَيُسبُّ من على منبر المساجد سيد المقاومة وكل من على مذهبهِ؟ ومِمّن يُسب؟! اللعنة على هذا الحال، أينَ نحنُ من التاريخ وأينَ التاريخ منا؟! والقادمُ أعظَم .

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com