"رأفةً بجيوبنا... رِفقًا بأعصابنا...مهلاً أيّها الزمن"، صيّحةُ استغاثة تنبعثُ سنويًا من مجتمعنا، مع افتتاح موسم الأعراس الذي تصحبه موجة استياء وتذمُّر عارمَين من قِبَلِ النّاس. الاحتفال بالأعراس تقليد عريق ومتأصِّل في مجتمعنا منذ القِدَمِ، وقد اعتادَ أجدادُنا المشاركة في العرس بكل فرح وسرور، والسعادة تغمر وجدانهم، فالأعراس آنذاك كانت قليلة جدًا، ليس مثل اليوم،"العُرس اللي بيعجبكاش خُد غيرو"، وقد باتت مضاعفاتهاالمادية، تؤثر على ميزانية العامل، الذي بالكاد يعيل أبناءه.

التزايد السكاني الذي طرأ على تركيبة مجتمعنا العربي،رفع نسبة الأعراس بشكلٍ لا يتلاءم مع حالته المعيشية، والازدياد الملحوظ في هجرة بعض العائلاتإلى المدن والقرى المجاورة، ساهم في تَوَسُّع شبكة العلاقات الشّبابيّة، التي قد لا يوليها بعض الآباء أهمية كُبرى، غافلين عن أن الكثير منها قد يؤدّي إلى علاقة زوجيّة شرعيّة. هذا التزايد أدى إلى اشتداد وطأة الأعراس سنويًا على الناس، خلال موسم الصيف تحديدًا.

قضية الأعراس "إلها أوّل ما إلها آخر"، لأنها لم تعُد تنتهي عند مسألة الواجب الاجتماعي، فسيطرت على العلاقاتالإنسانية المعدومة أصلاً، أضِف إلى ذلك، إنها تُرهق جسد الإنسان، فيضطر ذلك الشخص أن يسهر أسبوعًا كاملاً، لدى صاحب الفرح (المعني به شخصيًا)، وأقصد "التعاليل" الليلية المضنية، التي تُقام تحت الرعاية السّامية لوالد العريس، فيُقيم الولائم الفاخرة، التي تشمل العشاء الاحتفالي، (وكل هذه التشريفات المذكورة تحصل عليها العروس أيضًا)، وطبعًا لا يمكنك المشاركة فيها دون أن تُحضِر "هدية"! وعند اقتراب نهاية العشاء أو السّهرة تبدأ بعض المقرّبات من أهل الفرح، بتوزيع قِطَع الحلوىعلى الحضور، يُحضّرها بعض النساء العصريّات الماهرات بصنعها، يتنافسن بينهن من يحضّر النّوع الأشهى والأغرب واللذيذ والأجمل تزيينًا وترتيبًا!!.

صاحب العرس سيضطر أن يُحضر "תקליטן" (فَنّي تسجيلات)، الذي بات جزءًا لا يتجزّأ من الليالي المِلاح، و"يخجل" المشاركون حضور أسبوع العُرس و"إيديهن فاضية"، فيقدّمونلأبي العريس مُغلّفًا صغيرًا فيه جزء من النّقوط. بما أن الأعراس أصبحت تتكاثر سنويًا، مثل تكاثر البشر، فقد أصبحت مهنة الـ "תקליטן"، منتشرة ومطلوبة جدًا في مجتمعنا العربي، ومربِحة جدًا للشخص الذي يعمل بها، ومن ناحية أخرى مكلفة جدًا لصاحب العرس، ولن يتم الفرح إلا بحضوره، والجميع ينتظر سماع "مِحراك الطّرب"،الذي يشغّله صاحبه بتقنيّة فنيّة ماهرة، فنَسمع خليطًا من الأغاني، ويتنقّل من أغنية لأخرى بسلاسة، تماشيًا مع أمزجة أصحاب الفرح ولفيفهم، ويُعتبر نجم السّهرة الثّاني بعد العريس.

من الأعراض الجانبية للأعراس التي تُحيا في فناء خارجي أيضًا، ضجيج مكبِّرات الصوت، التي يصل صداها إلى بيوت الناس دون استثناء، فتُقلق راحتهم، وتُقصي النّوم عن عيونهم،نجدهم في الغداة يشكون من التعب والإرهاق.الموسيقى الصاخبة التي تصدر عن مكبراتصوتالـ"תקליטן" هي عارض خطير على آذاننا المسكينة، التي تضطر مُكرَهَة تحمُّل هذا الضجيج.

نلاحظ في الآونة الأخيرة أن العرس دخل أيضًا في مجال المنافسة الاجتماعية، وفي مجال مظاهر "البريستيج" المبتذل!!إذ نرى أضواء الزّينةتُشع منبيت والد العريس أكثر من جاره، وتُلفت والدة أحد المحتفى بهما وحاشيتها أنظار جميع النّساء، إلى فخامة أناقتهن، وما يصحبها من عرض أفخر الملابس ومستلزمات حُب الظّهور المختارة من دور الأزياء المحليّة، التي تتباهى بأسمائها الأجنبيّة!!.

من الظّواهر الأخرى التي دخلتعلى أعراسنا، ونخرت أسمى قيَم احترام الأشخاص المدعوّين، هي ظاهرة صندوق الاستثمار... عفوًا صندوق النقوط، الذي يوضع عندمدخل قاعة العرس. هذه الظاهرة أتتنا من الغرب، حبًّا في إدخال "التطوير" إلى عاداتنا وتقاليدنا التي يعتقد البعض أنها بحاجة إلى عملية إحياء من جديد.هذه الظاهرة تُظهر مدى "تمسكنا" بالأصول والعُرف!! مع أنّها من ناحية أخرى تعكس تخلّينا حتى عن فتات ما تَبَقى لنا من تقاليد جميلة.

الأعراس تأخذ حيزًا كبيرًا من حجم عجز الحساب الجاري لرب الأسرة المعيل صاحب الدخل المحدود، الذي يرزح تحت عبء الفوائد المصرفية والعمولاتالباهظة التي تسلبها المصارف من جيبه بهدوء، دون أن يشعر، وباتتتشارك زبائنها أفراحهم، من خلال إغرائهم بأخذ قروض بالتّقسيط المريح!! فالأعراس باتت هَمّ الناسالأكبر بعد همِّ رحلات الاستجمام التي يرزحون تحت وطأة تكاليفها عنطيب خاطر... يعني الأعراسترفيه اجتماعي مفروض على النّاس، له ضريبته الخاصة، ورحلات الاستجمام، ترفيه عائلي اختياري، وقد تحوَّل فصل الصّيف إلى موسم ضائقة ترفيهيّة شاملة على البعض.

لقد دحرتحياتنا الثقافة جانبًا، فلو يرتاد الناس معارض الكتب التي تقام سنويًا في مؤسساتنا، بقدر ما يرتادون الأعراس الاستعراضية، لشهِدنا ازدهارًا ثقافيًا، وتربويًا أفضل مما هو عليه حاليًا، ولكن دعونا نعترف بأنّ مجتمعنا أصبح مجتمعًا ترفيهيًا، وقسم لا بأس به ينبذ القراءة، لا يشجع أولاده علىالمطالعة، لانشغاله بالواجبات اليومية، وخصوصًا الأعراس، التيباتتبالفعل وجع راس الناس.إنّني أناشد مجتمعنا، أن يختصر هذه المراسم المكلفة، لأنه "الجايات أكتر من الرايحات"، ومهما طرحنا من حلول سحرية على النّاس، فذلك لن يُجدينا نفعًا، لأنه كما يقول المثل الشّعبي "كل واحد براسو موّال بدّو يغنّيه"، والأعراس فصل سنويمن فصول يوميّاتنا، لا يمكن الاستغناء عنها، ولكن يمكننا اختصار بعض بروتوكولات الأفراح غير الإلزاميّة، لأنه لا يوجد دستور اجتماعي يفرضها على أحد... 

استعمال المضامين بموجب بند 27 أ لقانون الحقوق الأدبية لسنة 2007، يرجى ارسال رسالة الى:
bokra.editor@gmail.com